قصتي ..

(( نشرت في مجلة ماري كلير - اكتوبر 2008))
في نظرة ..
ذابت الحواجز بين تاريخ اثنين من البشر، تقلصت المسافات بين بلدين بعيدين جدا عن قلب شمسيهما ..
في صدفة ..
تقوقعت هي داخل عينيه ذات الرموش الطويلة، وتضاءل هو طفلا صغيرا في رحاب بيت السكاكر ..
في وقفة ..
قررا انهما أحبّا بعضهما كثيرا ولا يريدان الإفتراق ..

***
نظرة حالمة و في نفس الوقت خائفة عبر النافذة، الصقتُ وجهي في الزجاج و أنا اشاهد وجوه مألوفة من رجال اعرفهم و لا اعرفهم يمدّون يدا مصافحة لوالدي، اراه من بعيد يهز يدا مرحبّة و يبتسم، حمدا لله .. هو حقا يبتسم على الرغم من كل الآراء التي دقت ابوابه طمعا بالعدول عن رأيه الذي بات يشكل اختلافا نادرا في المجتمع الكويتي التقليدي، أنا اعلم انه سمع الكثير من المبررات الذي تجعله يرفض القادم من بعيد، و لكنه صمد و أصرّ على استكمال التجربة.
دقّت الساعة الرابعة عصرا من اليوم الثاني عشر من شهر ديسمبر، هو اليوم الذي انتظرناه طويلا ليكتمل فيه حلم الإرتباط، اخترنا التاريخ معا، سهلا و جميلا لكي لا ننساه و لكي يكون وقعه موسيقيا علينا. الساعة الرابعة و الثلث "الملاّج" لم يصل بعد و "راندي" لم يصل! قبضت على جهاز تلفوني النقال دون ان انظر اليه، هل من الممكن ان يكون من هؤلاء الرجال الذين يعدلون فجأة عن رأيهم في يوم زواجهم و يختفون؟ هل اخترت رجلا فعلا يحبني .. و لن يتركني معلقة بين وعد زائف و حلم المستقبل الذي رسمنا خيوطه معا تطلعا لحياة ملؤها الأمل! تملكني الهاجس، فاتصلت به لأسأله ان كان سيأتي! رفع االسماعة و جائني صوتا ملؤه الامل، ذاته الصوت الذي احببت باللغة الاخرى التي اتقنت. " أنا قريب جدا من بيت حبيبتي .. انتظري ثانيتين و سترين سيارتي تقف امام منزلك" قال "راندي" و هو يبحث عن مكان مناسب لإيقاف سيارته. ابتسمت من نافذتي و أخذت اعطيه بعض المقدمات و التعليمات التي يجب ان يعرفها و هو يكتب كتاب زواجنا، اخبرته عن "الملاّج" و عن الشهود الذي سلفا اتى بهم من اصدقاء و زملاء عمل. عبد الكريم و نجم، رجلان كويتيان يعملان معه في الشركة الأمريكية العريقة التي جاءت للكويت، أبو إلا ان يكونا معه في يومه العتيد، أهلا و اخوانا لم تلدهم والدته التي تسكن تكساس آلاف الأميال بعيدة عن الكويت.

تمّ اتمام اوراق الزواج، و جاءت أمي تضمني بحرارة، تمسح على شعري و تخبرني انني الآن "زوجة"، وقع الكلمة غريب بعض الشيء و هو يقترن بإسمي، حلمت باللحظة كثيرا، و لم احسها داخلي إلا و أنا اجلس بجانب "راندي"، وسط ابي و اعمامي و اخوالي يبتسمون و يقدمون تبريكاتهم مخلوطة بضحكاتهم العالية و منتوجهم الخاص من نكات و طرائف.

استيقظ بعض الأحيان من النوم و أراه بجانبي ببشرته البيضاء و شعره الأشقر. احاوره في امور عديدة، اتناقش معه لساعات طويله في لغته لا لغتي، تمر عليّ أيام كاملة اقضيها معه في المنزل و لا استخدم كلمة عربية واحدة! اتراجع للوراء و أحاول ان استوعب الواقع .. أنا فتاة كويتية متزوجة من رجل امريكي !! تصدمني الفكرة بعض الاحيان بجنونها، و اتذكر المراحل التي مررت بها و أنا احاول التسويق للفكرة المبدئية لإمكانية نجاح زواج مختلط الاعراق مثل هذا في مجتمع لازال متمسكا بأحاديته. عندما عرفت زوجي قبل الزواج ايقنت انه الرجل المناسب لي، فأفكارنا متقاربة و احلامنا تكاد تطابق بعضها.
لم اتردد عندما تخيلت ان زوجي لن يرتدي اللباس التقليدي الكويتي الذي يشكل الصورة المتوقعة لحلم الزواج عند أي فتاة كويتية، لم تزعجني فكرة ان اسمه مختلف عن اسماء ابطالنا من الرجال الذي كبرنا نحبهم و نتمنى الزواج منهم، لم تقلقني حقيقة ان اولادي سيكونون منتمين رسميا لبلد آخر غير الكويت، و لم تعقني فكرة اختلاف بلد منشأه .. فنحن في النهاية نتيجة بحتة لتجاربنا الإنسانية. تمسكت بفكرة الزواج منه و قررت الكفاح من اجلها حتى قبل مفاتحة والدتي بالموضوع، أخذت اسئل اخواتها و صديقاتها القريبات منها عن الفكرة و عن ماذا ستكون ردة فعلها! كان الجميع يندهش و لكن في نفس الوقت كانوا يشجعّون لا يعارضون، و ينصحون بالإستمرار طالما كانت رغبتي مبنية على دراسة دقيقة للموقف و للنتائج المستقبلية المترتبة عليه. عندما اخبرت والدتي بالقصة تفاجأت بإبتسامة متوارية ارتسمت على شفتاها، نظرت في عينيها فعرفت انها موافقة طالما انه قد اعتنق الإسلام، و انه على استعداد لتوفير مستوى حياة معيشي مقارب لحياتي قبله. سألت عنه الكثير من الأسئلة و اعجبها انه قد انشأ نفسه بنفسه، و قاتل صراعا طويلا مع الظروف ليبني لنفسه حياة مستقرة و مستقبل مشرق.

اتساءل مع نفسي عن مقدار الإختلاف بيني و بين الفتيات من حولي و اللاتي يرفضن رفضا باتا من الزواج بغير كويتي، و عن الاختلاف الكبير بين والداي اللذان لم يشكلا أي عائق في مشوار زواجي من الرجل الذي اخترت مهما كانت اصوله، بعكس بعض الآباء الذين يعتبرون قراري واحدا من اكبر المحرمات التي تهدم بنية المجتمع، و نقطة فراق ابدية كانت ام وقتية مع ابنتهم ان ارادت الارتباط بالغريب.

نظرات الناس من حولي و هو يمسك يدي تعكس تماما طابع مجتمعي المحافظ، فتتوقف العيون طويلا على المنظر النادر لفتاة كويتية مصبوغة بلون الشمس و هي تتأبط ذراع رجل اجنبي، تبدو في غاية الراحة و هي بين يديه، تحادثه بطلاقة و تلبس خاتمه في اصبعها. عادة ما تتقافز نظرات الناس بيني و بينه في منتهى الحيرة الى ان يصل المشاهد الى نتيجته الخاصة عن سر العلاقة فيقتنع بما اسنتنتج و يبحث عن لغز آخر في وجوه الناس. نادرا ما يتعدّى البعض على واقع علاقتي بالأجنبي فنسمع تعليقات تدين العلاقة المحرّمة، سلفا معتقدين أننا معا بدون رابط رسمي، و انني بنت البلد التي ضربت عاداتها و تقاليدها و دينها بعرض الحائط و سمحت لنفسها ان تصادق رجالا ليسوا من وطنها و لا من دينها. و عادة ما أجد متعة من نوع خاص و انا أرد على هذه التكهمات بتعليقات مختصرة مثل " الجهل بالشيء اكبر مصيبة" او " قبل لا تتكلم اسأل"، أو من خلال رفع يد خاتم الزواج في الوجوه المستنكرة علها تدرك ان ليس كل ما يلمع ذهبا، و ليس كل فتاة كويتية متزوجة من رجل كويتي!

علاقتي مع زوجي بمنتهى البساطة، فنحن نعيش في الكويت بشقة جميلة تجمعنا مع ابنتنا ذات السنة والنصف، كلانا يعمل، و لكنه رغم اختلافه اثبت انه عاهل البيت، رجل يعتمد عليه و زوج يُثق به. "راندي" – الذي اختار اسم راشد بعد ان اسلم - انسان متواضع جدا و لكنه في نفس الوقت خاص الى ابعد الحدود، يحب المنزل، و يعشق خصوصية اسرته و بيته. و على الرغم من كل هذا، هو لا يقحم رغباته الخاصة و لا اسلوب حياته عليّ، يحترم شخصي و يفسح لشخصيتي مجالا كبيرا لتنمو و تزدهر، يشجع احلامي مهما علت، و يمنح تطلعاتي شيئا من الواقع الذي ورثه من بلده و حياته هناك.

قبل سنتين، قمت بزيارة أهله في هيوستن - تكساس بعد ان علمنا انني حامل بشهري الثالث، كنت مسبقا اعرف والدته التي جاءت لزيارتنا بعد زواجنا حاملة معها اشواقا من كل العائلة و تمنيات طيبة بالتوفيق. استقبلني الأهل و الأصدقاء بمنتهى الحفاوة، كانوا ودودين و محبين، متطلعين لرؤية الفتاة العربية التي خطفت ابنهم. حدّق فيّ الرجال طويلا و هم يدرسون ملامح جديدة لمفهوم الانثى عندهم، تحدثن معي النساء طمعا بمعرفة اي نوع اكون من النساء، و تحلق حولي الأطفال يسألونني كيف تنطق كلماتهم باللغة العربية، و ما ترجمة الأعداد؟

كانت الزيارة اشبه بالتعرف على الجزء الآخر من زوجي الذي لم اره بعد وجها لوجه، حياته قبلي، تاريخه، احبابه، اصدقائه و اعدائه، منزل جدته الخشبي في منطقة "كوربس كرستي" الذي عاش فيه صغيرا بعد انفصال والديه، صور طفولته الكثيرة و المعلقة على أحد الجدران الخشبية! مشيا على الأقدام زرنا كل المناطق التي كان يحكي لي عنها، كل الأشياء التي تركها خفه، كل الذكريات، و كل الأكلات التي اشتاقها و اشتهاها و هو بعيد في الكويت.

كانت زيارتي لوطنه بمثابة القطعة الأخيرة المتبقية من اللغز ليكتمل التعارف بيني و بين زوجي، بين البنت الكويتية المعجون تاريخها بصوت اليامال، و التي نشأت تلعب "الحجلة" بالمدرسة، و تخضب يداها بالحنة عندما يقترب العيد، و بين راعي البقر الصغير الذي نشأ في مزرعة خضراء يربي خنازير وردية و يمتطي حصانا اسود لايزال يحتفظ بصورته في محفظة نقوده.

تعليقات

‏قال الزين
:)

كانت قصتك هي اصبوحتي اليوم مع فنجان القهوة

استمتعت بها جدا



:*

شكرا لك
‏قال سبمبوت
الزين


سندريلا كانت احدى اصبوحاتي .. سعيدة بتبادل الصباحات ..
صباح الخير
‏قال نون النساء
في قصتك

يبدو إقتران قارتين
لغتين
مجتمعين
ثقافتين
في غاية السهولة



وصباح الخير
‏قال سبمبوت
نون النساء:

لا انكر نعمة انعمها الله عليّ، اقتراني وما عشت من حياتي الى الآن كان فعلا نسمه ربيعية رقيقة سهلة البلع وسهلة الاستنشاق. يكمن السر بمعرفة من أنتِ وماذا بالضبط تريدين من الحياة.
كنت اعلم أنني اريد انسان بالضبط مثله، فعندما وجدته لم تهمني لغة ولا تاريخ ولا قارات.
‏قال @alhaidar
كما قسمتي في القصة كل شيء إلى اثنين ..

اضطررت ان أقرأها على دفعتين ..

لكن التشويق لم يجعل الفاصل بينهما يدوم اكثر من دقيقتين ..

تميز ملفت ..

إلى الأمام دائما زميلتي الفاضلة ..
‏قال @alhaidar
وأضيف :

ادام الله الحب والمودة بينكما :)
‏قال سبمبوت
أحمد الحيدر

شكرا على الإطراء الرقيق .. و ديتو :)
‏قال غير معرف…
يااااه! اسمتعت بها كثيرا.
لديك أسلوب رائع.
سؤال متطفل: هل هذه قصتك الحقيقة أم مجرد خيال كاتبة؟
لا أعرف لم أحسستها واقعية جدا.
دمت رائعة ;)
‏قال سبمبوت
بسبوس

القصة قصتي كتبتها حرفيا بنبض مشاعري في تلك الفترة الغير تقليدية من حياتي .. لحظة بلحظة وحدث اثر حدث ..
شكرا على الزيارة .. سعيدة بك

سارة
‏قال غير معرف…
شكرا على مشاركتنا هذه المشاعر الجميلة.
هل نشرت مترجمة في (ماري كلير)؟ هل لنا بالنص المترجم؟

أضفت مدونتك إلى مفضلاتي. :)
‏قال سبمبوت
بسبوس

القصة نشرت بالعربية في ماري كلير العربية - طبعة الكويت.
العدد الأول في اكتوبر 2008

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

امرأة تحب النساء !

أنا عندي أرنبه ..

" غدّونة" تذهب للمدرسة !