بعيدا عن جذور الألم.

على مضض، وافقت ان تذهب معه. .
قال لها أنها يجب ان تذهب ليس لأجله بل لأجل الأطفال، فقد اعتادوا ان يأخذهم والديهم للمجمع للتنزه وتناول وجبة الطعام كل جمعة. يحدثها في نصف صوت ومن وراء خاطر، يزفر عليها نيران حنقه وغضبه: "فكري بأولادج، لا تخلين خلافاتنا تأثر عليهم".

ترتدي ملابسها بعصبية، تلقي ما يعترض طريقها على الأرض ولا تبالي، هذه ليست أول مرّة يخطئ بحقها.
كيف له ان يدعوا 30 شخصا على العشاء في بيتها دون علمها! رجاها ان تأخذ الأطفال الى بيت والدتها وتبقى هناك الى ان ينتهي عشاء العمل، لم يكن يريد ازعاجها ولم يود ان يرغمها على نشاط اجتماعي ليست مرغمة على المشاركة فيه.
وما زاد النار اشتعالا هو معرفتها اللاحقة من زميلة مشتركة ان بعض النساء مدعوات ايضا على العشاء.
ارادها ان تغادر البيت، ليستضيف هو لفيف رجالاته وبعضا من رشّات السكر التي سيأكلونها كعكة لذيذة على مائدة طعامها.

فاض الطوفان في صدرها، ان لم يخبرها بوجود النساء "سيدات الأعمال" فهو حتما يخبئ الأمر عنها عمدا.
قصد ان لا يخبرها بجميلات الجلسة لإنه لا يريدها ان تعلم .. ولا يريدها ان تأتي!
استشاط غضبا عندما واجهته بالحقيقة المخبوءة في جيب القدر، وضعت حقائقها نصب عينيه فأغمض عيناه ومضى يعلل: " أنا لم اخبرك لإنهن زوجات رجال الأعمال، قلت لك أن الوليمة هي عشاء عمل، لا شيء اكثر ولا شيء أقل".
قالت: "اذا كان المدعوين سيحضرون زوجاتهم، اذن لماذا لم ترغب انت بزوجتك ان تكون معك؟" ..
اغمض عينه مرّة أخرى وفسّر: "لإنك لا تحبين تلك الجلسات المشوبة بأحاديث العمل والبورصة والصفقات الإستثمارية. أخذتك معي قبلا الى مثل تلك الولائم فلم يعجبك الوضع!".
صرخت: "ولكنه بيتي، اذا لم يعجبني الوضع سافرت للطابق الثاني ونمت في فراشي، أم أنك كنت تريد الفراش لأغراض اخرى!" اغمض عينيه للمرة الثالثة، عض على شفتيه .. ولم يتكلم.

ترك لها الغرفة، ولكنه عاد بعد ساعة من الصالة يرجوها ان لا تدع خلافاتهما تبتلع نزهة الاطفال الأسبوعية، فهم ابرياء .. ولا ذنب لهم.

لم تكن ترغب بالذهاب، هي لا تطيقه ولا تشتهي ان تقضي معه ولو ساعات مقتطعة من امسية الأبناء.
وهي تضع حجابها امام المرآة تساءلت ما ان كان الأطفال سيعرفون ان والديهم ليسا على وفاق. ولكنها آثرت الذهاب علّها بوجودها هناك رغما عن الغضب والصمت ستبعد القلوب المحبة الصغيرة عن الوقوع بالفجوة التي باعدت بين القطبين!

المجمع التجاري الكبير ينضح بكل وجه، العابس والسعيد، الرائق والمعجون بألف سؤال، الممزوج بألف تيه. الأطفال سعداء يتراكضون والآباء والأمهات احيانا يشبكان ايديهما واحيانا كثيرة ينشغلان بلمسات اكثر سطحية.
طاولة في منتصف "الفود كورت" استقبلتها وزوجها وابنيها اللذان تفصلهما 3 سنوات عن بعضهما، هما بمنتهى البهجة والنشاط. تقفز شقاوتهم المحببة من زوجي العيون الواسعة التي عادة ما تلمح فيهما مخططات كبيرة لدمار صغير.
الطاولات والكراسي، الحقائب العربات والأطفال الآخرين، لا ينأى شيء عن مداعبة تبدأها الأيادي الصغيرة فتنتهي بالتلف او الكسور.

عندما اختارت الطاولة، حرصت على ان تكون بمنأى من العيون.
جزيرة مستقرة في بحر البشر، لصيقة بجدران المبنى فتسند عينيها على الحصون لكي لا يتلقف لوعتها الفضول المحيط.
ليس لأحد دخل في احزانها ولا غصات قلبها.
هو، لم يجلس في الجهة المقابلة كالمعتاد، أخذ كرسيا مواربا على يمينها . .
كانا يحاولان قدر استطاعتهما أن لا يتقابلان بلؤم مرة اخرى، على الأقل امام الناس و امام الأولاد.
" فاهيتا سالاد بليز"، سمعت نفسها تملي على النادل ما تريد، ولم تكترث بالباقي ..
لأول مرة لا يهمها ما سيأكل ابناها، عقابا له ومواساة لها: ستدع شأنيهما عليه هذه المرّة لعلّه يتوب عن أفعاله المشينة..
فقد ملّت اللف والدروان.

اعتادت حتى قبل زواجها على سوء الظن بالرجال، لازالوا مخلوقات معدومة الضمير:
النجار الذي أخلف الوعد، والسباك الذي أساء العمل، والطباخ القذر الذي كان ينسى اظافره بالطعام! ..
والسائق الكذّاب، وحتى الخياط الباكستاني التي كانت تفصّل عنده ملابس المدرسة عندما كانت مراهقة كان يتغافل والدتها ويلمس نهديها "عشوائيا" بطريقة "غير مقصودة".
صعقت في المرة الأولى، واختنقت في المرة الثانية، وتكلمت في المرة الثالثة لتوسعه والدتها ضربا بالقبقاب على رأسه، ثم تطرحها ارضا وتدوس عليها في السيارة بكل الكلام الجارح الذي من الممكن ان تفهمه فتاة في مثل سنها.
لم تمسك والدتها زمام اعصابها عندما قالت لها انها ليست المرة الاولى فصفعتها ودوّت المهانة اغنية حزينة لا تنفك تعيد نفسها في اذنها الحمراوين الى الآن.

منذ ذلك اليوم وهي لا تسكت، تقول ما تقول والباقي لا يهم.
الطاولة دوّامة وجع، والقريب منها بعيد عليها، اختزلت حادثة سوء التفاهم هذه نتائج كل حواراتهما الليلية على فراش العشق بالتفاهم الحضاري والحوار الراقي حلا لطوارئ المغالطة، تحولا الى وجهان يتجنبان بعضهما على الملئ.
يختطف هو من الوقت نظرتين اليها وهي تتجاهل اللمحات.
في قرارة نفسها تعلم أنه رغما عن رداء الخفاء الذي ارتداه وهو يخطط لحفل العشاء، لم يكن ينوي الخطأ.
هي تتذمر وتكره سهرات عمله، وهو آثر ان لا يسمح للملل ان يخيّم عليها في ليلته المهمة، فأخفى حقيقة صغيرة لم يكن يتوقع أن تقلب موازينها الى حد الإنفجار!

ينظر اليها من جديد ..تعلم انه ينظر ولكنها تغضب بصمت ولا ترد بوادر المصالحة لعينية.
اشاحت بوجهها الى الجانب الذي لا يسكنه وجهه، هي لا تهرب ولكنها تتعلّى.
تتمعن اكثر في الجانب المقابل .. فتراه !!
وجها لم تنساه لأكثر من ثمان سنين، شارب فاحم وعين تحدق فيها كالصقور.
وجه هربت منه وتزوجت .. وللمفارقة أنها في اليوم الذي ترى فيه سبب الهروب الكبير، كانت تهرب من الملجأ الذي آواها من تيه الوحدة ولوعة الحرمان بعده، على الشمال وجه الماضي الذي خان، وعلى اليمين وجه الحاضر الذي لم يخن .

التفتت الى زوجها فقفز من المفاجأة ..
بإضطراب .. ابتسمت بلا معنى ولا عنوان.
هو، كان بمنتهى الضياع، بحث عن كلمة يبدأ فيها مفاجأة المبادرة فلم يجد.
كان يعلم ان زوجته في مأزق، ولكنه لم يفهم من اي صوب باغتها الهلع.
بإرتعاش واضح، نهضت من مكانها لتلحق بالطفلين بعد ان تركت شقاوتهما له كأول جزء من العقاب، جلست بالكرسي المقابل له واجلستهما على جانبيها لتحتمي بحارساها الأمينان، نظرت طويلا داخل عينيه وابتسمت.

شك بالتغير الطارئ فأعاد اقتفاء آثار اهتياجها، همّ بالإلتفات الى جهة الطوفان، فقالت بسرعة:
"لا تظن انني غاضبة منك، انا فقط خائفة عليك من لإغراءات التي من الممكن ان تهدم حياتنا".

تجاهل المحاولة الفاشلة وكأنه لم يسمع، التفت الى الجانب الآخر الذي هربت منه اليه، رأى توأم اضطرابها هناك على الطاولة البعيدة، زفر وأعاد النظر في عينيها .. فأطرقت.
هزهّا الموقف، كيف للأحداث ان تناكفها الى هذه الدرجة!
كان ودودا خاضعا شاعرا بتأنيب الضمير ..
وهي كانت تمسك زمام القوة بيدها..
والآن وبعد نظرة واحدة من ماضي تواجد عنوة في أسوء وقت على رقّاص حاضرها، تود لو تجري الى صدر زوجها رغما عن العناد، وتختبئ ضلالا تحت أشجاره، فلا يجدها الألم حتى وإن عد للمئة.

كانت تحبه، كانت تحيا لأجله، كانت تنام على صوته وتصحو على صوته. كانت تمشط شعرها وتضع رحيقا عاطرا خلف اذنيها قبل ان تنام لإنها تحبه.
كانت ترتدي أجمل فساتين النوم القطنية وتتوضع اجمل نومة، تفرش شعرها الأسود على الوسادة وتغمض عينيها بدلال لإنها تحبه، حتى وإن لم يرها!
كانت تهواه وتعيشه وتتنفسه حتى وان لم يكن معها. .
كانت تخاف عليه وتناجيه وتناشده حتى وان لم يسمعها. .
كانت تعطيه شفتيها سرّا لإنها تحبه، وتسمح له ان يداعب تضاريسها لإنها تحبه.
ولكن الواقع بات يقرع اجراس التمادي ولا من كلمة مطر تروي الإنتظار. كانت جافة عجفة تتلقف الكلمات وتحيكها قصصا من بيت وزواج وأولاد. تنتظر التلميحات وتقلبها لصالحها علّه اليوم يأتي، او تتصل والدته على والدتها لينتهي الكابوس ويبدأ الحلم.
" أنا قلت للوالدة وقالت ان العمام ما راح يوافقون على الزواج، تدرين الأصل متفاوت، واحنا طول عمرنا ناخذ من مواخيذنا!".
اقفلت السماعة وقتها، وبكت الى ما لا نهاية، بكت الجذور التي تمتد ليختنق الرأس قهرا على الحظ الذي لم يوات. وبكت الرجل الذي لم تغريه جذوره المتأصلة قوة في صدر الأرض، من الوقوف شامخا بوجه الكبار يخبرهم بما يريد ولا يخاف الإقتلاع. بكت ..
وتزوجت رجل يشاركها عمقها القريب من الشمس والهواء.

أعاد زوجها عينيه من رحلة المواجهة بعد ان تلاقت عينا الرجلين عليها، كل ينظر لها من صوب وهي صامتة وخائفة من ان يتهور الماضي ويقلب مواجع الحاضر على رأسها.
خافت ان ترفع رأسها وتسأل السماح على اقتراف الخفاء.
عندما تزوجت .. سألها في أول أيام الارتباط ان كانت احبت قبله، فأجابت بالنفي ..
لم يصدّق ولكن النقطة انتهت عند نكران السؤال.

اضمحلت على كرسيها وهي تعلم ان زوجها ينظر اليها، رفع وجهها بيده والتقف دمعتها:
لا تبكي .. فلا شيء يستحق
قالت: آسفة ..

ابتسم .. أمسك يدها، وسحبها الى طاولة أخرى بعيدا عن جذور الألم.

تعليقات

‏قال ZooZ "3grbgr"
ربما يكون هذا مروري الأول

ولكني أقرأ لك منذ فترة

سبمبوته .. أنت رائعه

تركتيني أعيش القصة ولم أقرأها

كنت على طاولة قريبة منهم

أقلب بكلماتك عيناي

وتأسرني مشاهد القصة

حفظ الله قلمك الذهبي

وزادك من الحكمة




على فكره

صارلي اسبوعين ابي اعلق عندج
وما اقدر .. احرف التأكيد ما تطلعلي
وما ادري تعليقي راح اقدر ادزه ولا لأ
بس صدقيني .. تستاهلين المحاولات

:")
‏قال سبمبوت
zooz 3grbgr

لا اعرف ماذا يحصل! واجهتني ذاتها الصعوبات وأنا أحاول الرد على بعض التعليقات!!
جبيبتي شكرا على كلماتك الرائعة، عندما أكتب فعلا اشاهد ابطال القصة أمامي محشورين في عالمهم الخاص من أحداث تجعلهم بالنسبة لي مثيري للإهتمام.

شكرا على مرورك وعلا قرائتك لي ..
دمت طيبة
‏قال nikon 8
شنو هالروعة ... بدعتي يا سبمبوت
يعجبني جدا الرجل اللي ما ينظر للماضي ويخرب عليه الحاضر ... ويعجبني أكثر ثقتة بمكانته بقلب زوجته مهما ( طنقرت عليه )... وحاضر للإنقاذ متى إحتاجت الزوجة له وبدون طلب منها :)
‏قال |:| DUBAI |:|
أنتظر يديدج بفارغ الصبر "دوم" !

: )

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

امرأة تحب النساء !

" غدّونة" تذهب للمدرسة !

أنا عندي أرنبه ..