الفيل يا أيها الملك ..
يحكى أنه في زمان كان هناك ملك، والملك عنده فيل صغير يحبه جدا ويدلـله. يأخذه صباحا معه في حواري القرية يمشيان جنبا الى جنب والملك يتفقد أحوال الرعية. الملك كان قاسي القلب مخيف. والناس كانت تهابه وتتجنب لقياه.
كبر فيل الملك فأضحى حرّا، متى يشاء يسوح في أرجاء القرية بلا حسيب، كان ضخما ثقيلا مربّى بالقصور.يتحرك بين البيوت الطينية والدكاكين المتهالكة فيكسر ما يكسر ويهدم ما يهدم ولا يكترث .. فهو في النهاية فيل الملك!
اجتمع أهل القرية يوما ليتباحثوا حال الفيل الغدّار، لا يهمه مأواهم ولا حوانيت رزقتهم. يمشي ويهدم وقد ضاقوا ذرعا بالصبر والهوان. أجمعوا على رأي كانوا يخشونه عندما قال أحدهم أن الفيل لن يترك القرية سالمة إلا اذا اقتنع الملك بمنعه من التجوال. ارتعبوا من فكرة مواجهة الملك الظالم .. ولكنهم لم يجدوا بُدّا من الشكاية ..
صباح يوم لبسوا أجمل ما لديهم من هلاهيل، ودعّوا زوجاتهم، قبّلوا أولادهم خوفا من اللاعودة، وذهب الرجال يتقدمهم كبيرهم ورأس مشورتهم في موكب متوار خائف وصامت طوال الطريق إلى بوابة القصر المهيب.
في حضرة الملك وأمام العرش وقفوا خانعين، يلكز أحدهم الآخر للبدأ بالسلام والمبادرة بالكلام ..
كانوا يرتجفون من الخوف، ويتراعدون من نظرة حارقة تثقب قلوبهم الضعيفة.
تنحنح كبيرهم وتقدّم للأمام، خلع طاقيته ومسكها بكلتا يديه، انحنى وتمالك آخر بأسه ونطق بصوت مبحوح ..
" السلام عليك أيها الملك المهيب .."
تحرك رأس الملك تماما اليه وزمجر صوته قويا جهوريا متهدرج ..
" ما خطبكم ؟"
ارتجف قلب كبير القرية .. وقال بإذعان ..
" الفيل يا أيها الملك .."
رفع الملك رأسه ..
" ما به فيلي؟"
غاص قلب كبير القرية الى ركبتيه ..
" الفيل يا أيها الملك .."
حدّق الملك أكثر في وجه الرجل ..
" ما به قرّة عيني؟"
توقف قلب كبير القرية إلا نبضة واحدة ..
" الفيل يا أيها الملك .."
صرخ الملك متململا بازدراء ..
" ما به ربيبي ؟؟"
تنفس كبير القرية بصعوبة .. وأخرج صوتا معقوفا للوراء ..
" الفيل يا أيها الملك وحيد وحزين .. يحتاج الى فيلة !!
يضحك ابني في كل مرّة أقص عليه "الفيل يا أيها الملك"، يبتسم عندما يعلم أنني اقتربت من النهاية ويستعد صوته لإطلاق ضحكة ناعسة قبل ان يضمني ويغمض عيناه لينام.
سألني مرّة اين قرأت القصة الطريفة؟ ولم اجيبه تفصيلا، قلت له أنني لم أعد اتذكر ..
في الحقيقة قصهّا لي حبّي الأول من أيام الجامعة، قالها لي ونحن نجلس على أحد الكراسي الخشبية في حديقة الكلية، لا اتذكر المناسبة ولكنني حتما أتذكر القصة واتذكر صوته وهو يحكيها لي بجديّة متناهية. أحببت القصة بصوته ونظرة عينيه وهو يحاكي تارة جبروت الملك، وتارة أخرى هلع المزارع وارتجاج صوته. التصقت داخلي القصّة وتأرشفت دون أن اعلم في ملفّات معنونة بقصص الطفولة المعجونة بجنون الحب .. تلك القصص التي لا تنسى.
أُقبل صغيري وأغادر طرف سريره، والقي عليه نظرة أخيرة قبل أن اقفل باب غرفته عليه. لا أحتمل بعض الأحيان فكرة أن تفصلني عنه حواجز وأبواب ولكنّي أعلم أن اللعبة الآن بيدي لأخلط الخلطة المبدئية لعجينة رجولته .. الكرة حتما بملعبي حتى وإن كان هو من يركلها لوحده ليل نهار.
يتأفف زوجي من دلالي السمج – كما يسميه – للولد. أنا اعطيه كل ما يريد ولكني أحرص على أن آخذ شيئا بالمقابل. يحصل على لعبة جديدة عندما يساعدني في ترتيب السرير، ويأخذ حلوى اضافية فقط عندما ينجز مشروعا ما .. حتى وان كان تصفيف ألبومات الصور.
لا أعرف متى بدأت علاقتي حميمة ودافئة معه، لم نكن أصحاب عندما كان في الثالثة، فقد كان يحب والده أكثر منّي. يجري اليه عندما ندخل سويا للمنزل، ويجلس بجانبه هو على طاولة الطعام، بعيدا عنّي ..
بدا صديقي عندما بدأت أقص له قصص ما قبل النوم عندما بلغ الخامسة، كان يعشقها ويتشبث بثوبي لكي لا ارحل:
" قصة ثانية ماما .. ارجوك"
ولم أكن أفعل إلا اذا وعدني معاونة اضافية في يوم غد، كان دائما يعد .. وكان دائما يفي ..
أخبرني يوما أنه من بين كل القصص، قصة "الفيل يا أيها الملك" تسعده وتجعله يضحك ويرتاح وينام، سألته مرّة ان كان يفهمها .. يفهم مغزاها وما تحتوي من حكمة؟ قال ..
" كبير القرية مهرّج .. أراد أن يجعل الملك يضحك" ..
ضحكت كثيرا ذلك اليوم، ولم أشأ ان أبدد مفهوم طفلي البحت في جدوى البحث عن الفكاهة في كل قصة. كان المهرجين اصدقائه، والضحكة غايته، والسعادة هدفه حتى وهو يحكي لوالده نكتا جديدة تعلمها في المدرسة، يفرح ملئ طفولته عندما يقهقه والده عاليا ويسأله أن يعيد النكته .. كان يعيدها له مئة مرّة لا يتعب ولا يمل.
بعد اربع سنوات حصل فيها ما حصل، ذاته اليوم الذي وعدني فيه أنه سيساعدني في وضع ملابسه الشتوية في صناديق التخزين، أتصّل عليه صديقه واستأذنني في أخذه الى مباراة المنتخب لكرة القدم ضد منتخب الدولة الشقيقة المجاورة. كان الحدث كبير والكل يستعد للمواجهة المثيرة. والد صديقه سيأخذهم الى المباراة، سيبقى بالطبع معهم، ثم يعيد ابني الى المنزل في طريق العودة.
لم أحادث الوالد ولكنّي أخذت رقم هاتفه من ابنه تحسبا لأي استفسار او طارئ.
سردت لإبني الوصايا العشر وأعادها على مسامعي بالحرف والكلمة، كان في غاية الحماس والإثارة، يستعد بكل شيء لكل شيء. اشترى علم الكويت وبوق للتشجيع، لبس فانيلة المنتخب الزرقاء وقبعة عليها علم الكويت، وأخذ معه صفّارة. دسست بجيب بنطاله نقود ليشتري هناك شيئا يأكله .. لم يكترث وجرى بعيدا عنّي الى السيارة السوداء عندما سمع صوت البوق يناديه في الخارج.
لأول مرّة يذهب عنّي طفلي .. لأول مرّة لا نتقاسم لحظات السعادة معا .. ولأول مرّة سيأتيني بأخبار ما فعل وما رأى خارج أسوار مدرسته. أحسست وقتها بالخواء يجتاح العتمة داخلي. أنا لست بالعمل وهو ليس معي! لم أعتد هذا النوع من الفراق.
بعد ساعة أتصلت على هاتف والد صديقه فرد ابني مباشرة، اعطاه الرجل الكريم الهاتف ما ان رأى رقم هاتفي، اعجبتني الشهامة. اطمئنيت عليه وسألته ان كان يشتاقني، بالكاد اسمع ردّه من صوت الهواء وهتاف الجمهور، ولكنه أعطاني اجابه محببة وأقفل الهاتف.
الساعة العاشرة والنصف وصل ابني .. مشوبا بفرحة تلفّه كاللحاف السحري، حمرة الوهج في خديه من هول الإثارة، وبريق خاص في عينيه من عمق السعادة. منذ زمن لم ار وجه ابني لامعا مستبشرا هكذا ..
سألته عن الرحلة، عن المباراة، ان كان مؤدبا طوال الطريق .. وعن ان كان قد شكر والد صديقه قبل أن يترجل من سيارته؟ فرحت في داخلي لإنه أطاع التعليمات ولم ينس أي من الوصايا. أحسست بفخر عارم، ونزلت دمعة من عيني وأنا أرى ابني يفك عقد ارتباطنا واحدة واحدة مع الأيام. أحسست أنه كبر، وأنه قادر على الفرح بدوني!
بعد الاستحمام وقصة ما قبل النوم وقبلة الرأس اللذيذة وكلمة الحب الجميلة نام .. كان الوقت متأخرا وأنا مستعدّة للنوم.
سريري كان دافئا اكثر من المعتاد، وغرفتي مستريحة بستائرها الراخية ضفائر تتدلى من رأس الليل. وضعت رأسي على الوسادة وتركت النوم يدغدغ قدمي بريشته السحرية.
الثانية بعد منتصف الليل أسمع المنادي ينتشلني من قاع نومي، جرس هاتفي يرن وهو عادة لا يرن في هذا الوقت اطلاقا، فتحت عيناي وارتعبت .. رقم غريب ولكنه مألوف. جلست على طرف سريري استعدادا للهرب، حملت هاتفي وترددت في فتح الخط.
بعد ثوان ضغطت الزر .. وجاء صوتي نائما وخائفا في نفس الوقت .. "الو!"
صوت دافئ لاقاني في منتصف الطريق .. دلف دون استئذان:
" قال لي ابنك اليوم قصة .. أنا أخبرتها لحبيبتي قبل احد عشرة سنة على كرسي خشبي في كلية الآداب .."
سقط قلبي بحضني .. لم أجد ما أقول .. فصمتُ
" عرفت أنك انفصلتي عن زوجك، لم أسعد بالخبر ولكني بكيت من الفرحة .. أنا انفصلت عن زوجتي منذ عام، لم تكن مقدرّة لنا السعادة .."
أحسست بإرتعاش شفتاي، ودمعة تنزلق على خدّي .. تمالكت نفسي وظهر صوتي من جوفي ..
" زياد ؟"
بصوت مهترء يغالب نشيج الفراق وضحكة اللقيا بعد طول سنين قال:
" الفيل يا أيها الملك وحيد وحزين .. يحتاج الى فيلة .."
ضحكنا وبكينا .. الى ان طلع الصبح علينا ..
تعليقات
ربما تجمعنا أقدارنا ذات يوم
بعدما عز اللقاء!!
أمومة،وحب بالقلب نام
وأمل تبعثيه في كل القلوب التي تفارقت
وعز عليهم اللقاء
ما أجمل الفيل..وماأذكى قصصك واعذبها يا صديقتي الجميلة
:**
اضحكتيني ثم اثرتي الشجون ثم دعوتي الدمع ليشارك الضحك والشجون
شكرا لك
باسلوب راقي وكلمات معبره
ابتساممه تعلو وجهي
ورضي يملئ نفسي
وانا اقرا للاختي
لا حرمنا الله من وصلك ولا علمك ولا قلمك
والله ضعنا بالطوشة
بس الحنان الموجود فيها لو وزع مدرسات ابنائنا لانصلح حال وزارة التربية بكبرها
يعطيج العافية
بس هم ابي جواب على سؤالي
احيانا خيالنا يساعدنا كثيرا في تخطي الصعاب ولقاء الأحباب بعد طول غياب .. لولا الخيال لما كتبت يوما حرف واحد.
شكرا لك على قراءتي كلما وضعت كلماتي هنا للملأ .. كلماتك تلهمني ايضا.
غير معرف
أجمل اللحظات واغربها تلك التي تختلط فيها الشجون مع بصيص فرح وضحكة ..
سعيدة بالتأثير الذي وضعته القصه في قلبك.
أدامك الله دوما في ضحك.
مركبنا
شكرا حبيبتي على الكلمات الجميلة والاطراء اللطيف.
فريج سعود
كل القصص التي اكتبها لابد وأن يكون فيها شيئا من الواقع .. ليس بالضرورة واقعي أنا.
هذه القصة على سبيل المثال مستوحاة من وجه صديقتي التي تطلقت وهي في 24 من عمرها. هي الآن تعيش مع ابنها الوحيد في منزل والديها وتنتظر بفارغ الصبر رجل ينسيها كل ما مرت به من آلام.
لم يحدث هذا فعلا في حياتها .. ولكن علاقتها مع ابنها، وامانيها وتطلعها لمعجزة ما أوحت لي بقصة الفيل يا أيها الملك.
أرجو ان أكون قد أجبت على سؤالك ..
وسعيدة بكونك قارئ مشارك للقصص.
أسلوب روعة
يعني صعب الواحد يلقى مثل هالكتابات يقراها ويستمتع فيها ويعيشها ويندمج بأحداثها
روعة بكل معنى الكلمة
قريت كل شي طافني
وحفظت مدونتج ضمن المفضلة
في بوست عجبني بطريقة خيالية
شكراً لإبداعج
تحياتي لج
وحبكتها رائعة تصلح تصير فيلم قصير
ونهايتها أروع