*صندوق البرميت ..




بين ظفيرتيها يقع خط الإستواء..
والخط الأبيض مختبئ تحت بخنق أسود مطوّق بخيوط النشل الذهبية. مفرقها الناصع لازال يرى بالعين المجردة بالرغم من سواد الغطاء. في الخارج في براحة الرمل القريبة من بيتها لازالت تلعب الحجلة والغميضة مع بنات الفريج.
"أمي قالت ما نروح بعيد لي بيت بوجاسم .. بعدين تجينا حمارة القايلة" وضعت خطا عريضا لصويحباتها " ما نروح يعني ما نروح". تأففت رقيّة وسحبت مزنة بعيدا عنها :
" اذا ما تبين تيين معانا كيفج .. احنا بنروح ناكل سبال". صمتت ولحقتهم بعينيها وهما تبتعدان.
جلست على الرمل تحفر حفرة، وداخلها تضع الصخرة السحرية التي تساعدها دائما في اكمال القفز على خريطة الحجلة بدون اخطاء. كانت دائما تفوز.

من بعيد يقبل .. يمشي بإتجاهها، أحست بالقادم فرفعت رأسها لترى، عرفته فأطرقت تكمل الحفر " آنا اواريج يا رقيّة .. والله ما اعطيج ربازتي ولا أخليج تفوزين".

اقترب منها :"طيبة .. شتسوين؟" بدون ان تنظر اليه : "قاعد احفر"، يجلس على ركبتيه ويمد يده "اساعدج؟" لم تنظر "لا".
يبتسم، يقرص خدها بتحبب ويقف. تغتاظ وترمقه بغضب وهو يبتعد.

منذ بلغت طيبة الثانية عشرة وأهل حمد يلحّون عليه بالزواج، والدته تستعطفه "طبّقت الاربعه وعشرين ولين الحين ما عرّست!! ريّح قلبي يا حمد وخليني اشوفك معرس وفي حضنك حرمتك". كتم السر في البداية ثم مع الإلحاح فل الصرة وانطلق الحب عصفورا في الأفق .. " أبي طيبة".
أحبها من زمان لا يعرف منذ متى. كنّ لها مشاعره وحملّ طفولتها ذنب اكتمال دورة القمر، عمرها عمر الزواج ولكنها لازالت تنشد مع البنات اناشيد العيد وتنتظر العيدية بدون صبر. تصرخ مع الصغار "خروف مسلسل هدّوه" وتجري بعيدا مع الريح عندما يطاردها عليوي ليخرجها من اللعبة.

كان كل ما يراها تلعب يقرص خدها ويمسح على رأسها، كانت شقية وجميلة تجعله يبتسم، وهو كان فتيا يحب الفرح.
تكلمت الأمهات ووافق الآباء على المصاهرة "حمد والنعم فيه من خيرة شباب الفريج، رجال ويعتمد عليه". دخل حمد البحر مرتين، كان غواص ماهر والكل يشهد له بالذكاء والنشاط والأخلاق الحميدة.

طيبة تنكمش بجانب أمها على سجادة الصلاة:
" بس يمّا .. انا بي العب ما ابي اعرّس"
" راح تلعبين"
" بس يمّة رقية وسبيكة ومزنة ما راح يلعبون معاي!"
" يا يمّا مالج شغل فيهم، راح تلعبين معاي ومع بدرية ورحمة ولطيفة .. انتي تحبين لطيفة"
" بس يمّا لطيفة كبيرة وعندها فهد وسعد .. شلون العب معاها، ما ترضى تلعب معاي"
"راح ترضى .. خلاص انتي الحين بتكبرين"
صدمتها الفكرة، وتنازعتها رغبة عارمة في خياطة البخنق حول رأسها لكي لا تخلعه، وفكرة لبس العباية السوداء الحريرية ووضع الديرم الأحمر القاني على شفاتها. نفضت الأفكار الكبيرة من رأسها وجرت للخارج لتعيد فتح حفرة الكنز واسترجاع ربازتها من بطن الأرض.
"خلاص راح العب حجلة مع حمد!!"

في اليوم التالي رأت في منامها صندوق، والصندوق مفتاحه عندها، عندما فتحت جفونه رأت كمية مهولة من بيض الصعو وبرميت وجاكليت وقمرالدين، شهقت وسألت "من منو؟" قالوا لها انها هدية حمد. فزّت من النوم وهي تتلمض طعم حلو كالسكر في فمها. غسلت وجهها وصلّت، دعت ربها أن يتحقق حلمها ويجلب لها حمد برميت وقمر الدين عندما يتزوجها.

في يوم الزفاف لبست طيبة أحلى فستان اخضر، وضعوا على رأسها هامة جميلة من ذهب وأجلسوها في كرسي خشبي وسط الدار، مسكت كل واحدة من نساء الفريج طرف من بساط اخضر كبير فوقها.

أحسّت أنها في خيمة وسط بحر من نور. غنّت المنشدة واستهلت ادعية الجلوة بالصلاة والسلام على رسول الله. صدح صوتها الحاد في ارجاء المكان ((أمينة في أمانيها )) والنساء يردون (( هالله هالله )).

كانت مندهشة، مأخوذه الى عالم سحري هي فيه الأميرة، وصيفاتها يغنون ورقية ومزنة ينظرون لها من بعيد.

تُرى ولا تُمس مثل الشمس او القمر.
تحت البساط جلست طفلة لازالت تتعلم الأحرف العربية والأعداد. لازال والدها يدللها ويأتي لها بعرائس الصوف والدراعات الحمراء التي تحبها. قالت لها والدتها انها عندما تخرج من تحت البساط ستكون قد اصبحت امرأة. وبفارغ الصبر انتظرت طيبة لحظة الخروج. تخيلت نورا ازرقا يشع من عينيها وهالة من لون تحيط بها عندما تخرج من تحت البساط، تخيلت صوت جهوري مثل صوت الرياح في احد ليالي الشتاء التي اخافتها، وتخيلت انها عندما تخرج من تحت الغطاء ستكون كبيرة مثل امها، و جميلة مثل لطيفة.

انتهت "اليلوة" وجاءت اللحظة، سحبت امها يدها لتقف، انزاح البساط من فوق رأسها، وصهلت طيران النساء من حولها،

تلفتت .. اين النور الأزرق وصراخ الرياح؟
وضعت والدتها عباءة حريرية على جسمها الصغير، لفتها جيدا ..
شيلة سوداء فوق رأسها، "بوشيّة" غطّت وجهها ودفعتها الى الخارج، مشت طيبة لا تدري الى اين ..

لاول مرّة لا ترى الشارع ولا ترى اين تضع قدماها .. تخبطّت .. التوت ساقها وكادت تسقط. سحبتها يد وتضاحكت النساء من حولها، التفتت فرأت أمها تسير بمحاذاتها .. دققت اكثر فرأت دمعة لامعة على خدها من تحت الشاش الأسود، لطيفة ايضا تبكي والنساء الأخريات كلهم يضحكون.

بكت ..
في بيت أهل حمد وقف الرجال يحيّون المعرس، وعندما رأوا موكب العروس تنحّوا عن الطريق وافسحوا مجالا واسعا لدخولها.
دفعتها يد للداخل عندما توقفت رجلاها عن الحركة. "ليش احنا في بيت حمد!" سألت نفسها. دخلت، ثم دخلت بابا آخر من جديد وفجأة سكت كل شيء. الطيران صمتت للحظة، والأناشيد صمتت للحظة، واليبّاب سكت. رفعت البوشية عن رأسها وأدارت عينيها في الغرفة.
فتح الباب، أمها تدلف بسرعة وكأنها لصّة تسرق اللحظات من صدر الحدث، جرتها وهمست وهي تلهث:
" طيبة يمّا سمعي كلام ريلج وسوّي كل إللي يقولج عليه، انت خلاص صرتي مرّة. اذا قال لج نامي .. نامي، واذا قال لج تعالي روحي، واذا قرّب منج مايخالف، اذا شال ملابسج عنج مايخالف، واذا شاف رجولج مايخالف. واذا لمس صدرج مايخالف. واذا نام فوقج مايخالف".

طرقات قوية متطفلة على الباب قطعت حبل افكار الأم وبددت سحابة الفزع الى واحدة اكبر منها في وجه طيبة ..
"انشاالله .. انشاالله" صرخت الأم .. قبلت طيبة .. وخرجت

فزع في عين طيبة نادى لوعتها من قعرها، مشوبة بحيرة غريبة و .. غربة، لأول مرّة تشعر طيبة بالغربة.
تملكها رعب لم تشعر به من قبل ولم تختبره. أشياء لا تعلمها ولا تدريها القيت فوق رأسها الصغير وهو الآن يدور.
دارت عيناها مرّة أخرى في ارجاء الغرفة ..
فراش عريض، حصير، سراي وصندوق مبيّت كبير، دنت من الصندوق اكثر، يشبه كثيرا صندوقها الذي رأته في الحلم، مدّت يدها وسحبتها عندما سمعت الباب يفتح.

صوت الطيران يعود يصم آذانها من جديد و يبّاب عالي .. فوضى الأصوات لم تعد تعجبها.
دخل حمد .. لأول مرّة تلاحظ كم هو اطول منها، دنى وتراجعت، علا صوت الطرق والزغاريد والطيران والطبول، وعلت اناشيد النساء واغاني الفرحة.
فزع ركب وجهها فتسلقت نظرة جافة في عينيها..

دنى وتراجعت ..
قشعريرة اعترت ساقيها وصب الخوف ناره في ركبتيها .. دنى وتراجعت
اصطدمت بالصندوق الكبير خلفها، ولم يعد هناك مساحة في الوراء، مسك يدها وسحبها ..
" تبين تشوفين شنو في الصندوق؟"
فتح الصندوق ..
فرأت جاكليت وبرميت وعروسة صوف ..
___________________________________________________________
* القصة مستوحاة من طفولة جدتي .. فقد كانت طفلة عندما تزوجت .. وجدي " الله يرحمه" كان يعاملها بمنتهى الرقة
ولم يلمسها كزوجة حتى بعد فترة طويلة من عقد القران.

تعليقات

‏قال chandal/danchal!!
انا قريت صندوق برميت وتذكرت يدتي رحمة الله عليها


سبحان الله... تغير جذري بأقل من 100 سنة

الله يستر على عيالنا... مادري شلون بيتزوجون!

احب البرميت واحب الحيلة واحب العب برمل البحر المندج

واحب سوالفج وايد.... ويا صباح البرميت

:)

واحب سبال مكة!
‏قال غير معرف…
انت روووووووووووووووعة
‏قال ikhalifa
منو راسم الرسمة هذه؟
‏قال سبمبوت
Chandal/ danchal

أحب سوالف جدتي كثيرا ولازلت أسمعها كطفلة صغيرة تسبح في عالم خيالها قبل أن تنام.
الله يرحم جداتنا،، ويجعلهم دائما في سعادة مثلما يرسمونها في قلوبنا.

سليل

شكرا .. وانت أرووووووووووووووووع

ikhalifa.com
ما ادري .. لقيتها في صديقي العزيز قوقل.
‏قال I7na 3shagnaha
فعلاً الرجولة هي الأخلاق الكريمة و المعاملة الحسنة

وين أول و وين الحين

مفهوم الرجولة تغير الى محاولات اثبات الذات, التصلب في غير موطنة, القسوة على الأهل.

سبحان الله .. الأخلاق مالها علاقة بكمية التعليم

على جهلهم في أمور كثيرة إلا انهم كانوا مثل الأخلاق الكريمة

الله يرحم جدج و جدانا و يخلي جدتج و يحفظها :)
‏قال غير معرف…
بين رائحة الحنة
وبين الفرجان

وصيحة اليهال
وصخله ام احمد (=

عشت ورديت

وااااااااااااايد
اندمجت في القصة
ماشاء الله ما شاء الله
اسلوبج ولا اروع

بس لو مو مدققه بوصاسه امها
‏قال 7osen
ابداع بكل معنى الكلمة

ماشاءالله عليج

روووعة القصة والاسلوب

اهنيج على مقدرتج في خلق افكار جديدة من واقع الحياة

اجمل التحيات

:)
‏قال غير معرف…
هي قصة جدتك وجدتي وأمي بعد
تحياتي وسلامي
مدونة عامرة
أحتاج لوقت طويل حتى أطرقها بالكامل
إنما مدونتي فهي وليدة لا تضم إلا قصيدة واحد على شكل ملف pdf
أرجو أن تنال إعجابك
شكرا لردك السريع
وأمنياتي وسلامي
أمل العوده
‏قال Sweet Revenge
سبمبوت لما اقرا قصصج احس نفسي طفلة منسدحة ومبققة عيونها لقصة تنتظر نهايتها بفارغ الصبر
سرد القصص فن ابدعتي فيه الله يحرسج ويويفقج
الصورة الصراحة تنن ;)
وناطرة قصص القادمة
‏قال غير معرف…
waid waid 7lwa el g9a :)

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

امرأة تحب النساء !

" غدّونة" تذهب للمدرسة !

أنا عندي أرنبه ..