القلادة إياها ..



بفستان صيفي، لينين أبيض وكعب عالي خرجت من المنزل بإتجاه العمل ..
كانت السماء رائقة والهواء نديا شقيا يذكرها بتلك الأيام التي كانت تحبها. كلمت نفسها طوال الطريق بحوار طويل وشائك، إما هي تقتنع أو هي تقتنع!
الحزام الباهض الثمن من دار أحد مصصمي الأزياء العالميين يلتف حول خصرها، لا تدري لماذا ارتده اليوم؟ ربما هي محاولة يائسة لوضع طوق نجاة حولها .. ربما هي خائفة من الغرق!
أعلنت تواجدها في العمل، جلست على مكتبها لا تسمع أي شيء سوى صوت الأشياء داخل رأسها، ساهمة وشاردة ولكنها متوترة جلست طوال الوقت الى ان حانت الساعة إيّاها ..!
قالت لرئيسها أنها ستخرج لساعتين وتعود:
" شغل خاص بأوراق خادمتي" واغمضت جفنا على الموضوع نائما بتخاذل .. او هكذا تضاهرت أن يكون!

الساعة العاشرة صباحا ترمقها من عين ساعتها، تنفست عاليا وعميقا وأحسّت بدغدغة في قاع قدميها، حملت حقيبتها ونظرت الى حذائها ..
أبيض عالي مغري بأطراف فضية، هو ذاته السحري حذاء سندريلا الذي لبسته في ليلة عرسها بعدما غيرت ملابس السهرة الفارهة الى بدلة حريرية بيضاء ستخرج فيها مع زجها. في ذلك اليوم كان كل شيء يشير الى انها عروس: بياض يديها، رؤوس العاج في فمها، الوردة بين طيّات شعرها، الفستان والحذاء وكل شيئ .
حتى العريس آنذاك بدا ابيضا بردائه الناصع لأجلها .. لكي يتماشى معها لا لأي سبب آخر.

توجهت لسيارتها، دخلتها بسرعة وكأنها تهرب من نفسها ..

على الرغم من انها لم تكن تجري إلا أنها احست بثقل تنفسها. حبات عرق خفية على ظهرها، ورعشة خفيفة في ركبتيها.
ذاتها الركب التي قرصتهما بنات خالاتها وصديقاتها لتلحقن بركب النصيب.

هي كانت الأولى، وبدت كل واحدة متفائلة بإنفراط العقد أخيرا وانسحاب حبات اللؤلؤ للقفص واحدة تلو الأخرى.
هناك معتقد في مجتعنا يضمر أنه " إذا تزوجت البنت تسحب الباجي وراها"، تقود سيارتها وتتذكر وتضحك ..
بعد سنتين من الزواج لم تنسحب أي من قارصات الركب الى الدوّامة المنتظرة!!
"المعتقد جدا سخيف ويجب أن تتوقف النساء اليائسات من اختلاق أساطير ومقولات تهوّن الهم وتخفف المصاب ..
من لم تتزوج، لم تتزوج، لا قرصة ولا بوكيه ورد سيعجل من القدر .. "
زفرت:
" متى سنبدأ بتسمية الأشياء بأسماءها الصحيحة!؟"

تتوقف سيارتها في موقف كافيه بعيد عن أماكنها المعتادة .. تنفخ هواءا ساخنا مشحونا بألف هاجس، وقبل ان تفتح باب سيارتها تنظر الى نفسها بالمرآة .. من رقبتها تدلت قلادة، ذهب ابيض هدية زواجها من والدتها ..
ألبستها امها القلادة الجميلة قبل أن تذهب مع زوجها لشهر العسل .. أخذها الى تايلند.
في ذلك اليوم أيضا وقبل أن تغادر بيت والديها لحزم آخر ما تبقى من حقائب العسل ..

اتصل ..
رن هاتفها وهي تسوح بعينيها المودعتين لغرفة صباها، غرفتها بمنتهى الجمال لازالت تحن اليها، الجدران المشمشية، والمرايا الطويلة المسنودة على الجدار كم تحبها، تمكنها من رؤية شكلها النهائي كاملا قبل الخروج ..
الى الآن لم يشتري لها زوجها واحدة !!


رن هاتفها ورأت اسمه يطل عليها، تسمرت عينيها على الاسم النابض في شاشتها الصغيرة ..
قبل أن تفتح الخط تسائلت : "ترى متى سيتوقف النبض وتخفت الأضواء في قلبي كلما لمحت اسمك؟"
اقفلت الباب عليها مثلما كانت تفعل سابقا ..

دون دراية أو استيعاب فتحت درفة خزانتها الكبيرة وجلست داخلها، تماما مثلما كانت تفعل عندما يتصل ..
كانت تجلس في الخزانة اعتقادا منها أن لن يسمعها أحد وهي تكلمه ..
أغلقت باب الخزانة وفتحت الخط معلقا بلوعة وقرصة ذنب ..
" تزوجتي اذن؟"
قالها بدون مقدمات .. شهيق طويل استطاعت أن تجمع منه بوادر قوّة:
" الى متى كان من الممكن ان انتظر؟"
عاجلا رد وبلا تفكير ..
" طول عمرج انانية"
كانت كلمته كفيلة بمسح الهلع عن ملامحها التي تسمرّت لبرهة في الظلام، صفعها الإتهام وأيقضها من كابوسها. أعطاها سببا نهائيا لطوي الصفحة الى الأبد، أعطاها منطقه الغريب واتهامه السريالي ثقة وتأكيد أن ما أقدمت عليه غاية بالعقل .. وربما العبقرية!! ازاحت كلماتها ابتسامة على شفتيها:
" انانية؟؟ آنا الحين الأنانية؟ ما أصدق !!
انتظرتك 3 سنين لتنهي الجامعة، ثم انتظرتك 6 شهور لتجد عملا، ثم انتظرتك سنة كاملة لتثبت نفسك وتصنع اسمك، ثم انتظرتك سنتين لتقنع أهلك فيني!!، ثم علمت بعد كل هذا الإنتظار أن والدتك لم تسمع يوما اسمي!! هل أنت فعلا تكلمني الآن، ثلاث ساعات قبل أن أطير لشهر عسلي .. لتخبرني فقط أنني أنانية؟"


ضحكت .. كثيرا ضحكت ولم يقنعها التوقف عن الضحك إلا عندما فتحت باب الخزانة، وخرجت منها الى النور. بعدما اقفلت الخط وردمت مغارة الذكريات بمن فيها الى الأبد.


تتذكر ذلك اليوم دائما عندما تشوب حياتها مع الرجل الجديد بعض المطبات الهوائية قوية كانت ام طفيفة ..
في النهاية تؤمن أن الحياة ستستقر وتمضي الرحلة سلسة وناعمة. وان لم يحدث، لابد وأن ينزل من فوق رأسها قناع الأوكسجين، تستنشق رحيقه قليلا، فيعود ضغطها طبيعيا .. وترتاح.

على انعكاس صورة قلادة أمها في مرآة سيارتها استعادت نفسها من تحت أنقاض الذكرى، نقلت عينيها من القلادة الى عينيها، كحلها الأسود الذي كان يجننه، الآي لاينر الممطوط حبلا شقيا تمده الهة الغواية اليه، تربط فيه معصمه فلا يقوى على الهرب ..
نظرتها الخجولة الصامدة في محيط عينيه، وابتسامة متوارية كلما رأته يقترب منها ليتقاسما عيش وملح على طاولة غداء بعيدة.
تعلم انها كانت تحبه .. ربما لهذا هي الآن هنا !!

كانت في المستشفى عند صديقتها المقربة تعودها بعد الإنجاب عندما رن هاتفها .. رأت الرقم هذه المرّة ولكنها اضطربت لإن الاسم اختفى بعدما مسحته من ذاكرة هاتفها. اعتقدت أنه ممحي من ذاكرتها ايضا ولكنها مخطئة ..
استأذت وخرجت الى الردهة الطويلة .. كسنين انكسارها، فتحت الخط:
" سعود؟"
" هقيتج ما راح تذكريني؟"
" تهقى بهالسهولة أنسى العشرة؟"
" والحب؟"
" سعود .. آنا متزوجة .. ماله داعي هالكلام"
" ولهان عليج"
" سعود!!"
" أبي اشوفج .. اقعد معاج في قهوتنا البعيدة مثل ما كنّا نقعد"
" مستحيل"
" عيل ليش رديتي على التلفون؟؟"
" قلت لك .. ما انسى العشرة"
" وآنا ماني قادر أنساج .. خلينا نتلاقى آخر مرّة، نبوق اللحظة من جيب العمر مثل ما كنّا، ونبتعد ولا كأن شي صار او بيصير"
" سعود! ..
لم يترك لها فرصة جواب .. قال لها الوقت واليوم والساعة .. واقفلت الهاتف وهي لا تكاد تقوى على الرجوع الى غرفة صديقتها رقم 530 في الطابق الخامس ..
اين هي. . ومتى وصلت الى هنا .. لم تعد تتذكر!

في السيارة القابعة، الصامتة في فوضى المشاعر تتأهب للنزول لمقابلته بعد سنين!
تتلفت بحذر خوفا من عيون ترصدها. تجد سيارته هي الأخرى مركونة في مكان ما، منسية وربما حزينة.
ذاتها السيارة التي شهدت اللقاء الأخير. ركبت سيارته في ذلك اليوم لتترك معه ليلتها جزءا من قلبها وحفنة من حب ضاع مع الوقت وأضاع وقتها!
قالت له في بطن السيارة أنها ستجهض الوعد .. انها ستتزوج لإنها والإنتظار ليسا أصحابا كما اعتقدت.
هناك على المقعد الجلدي احترق، ثم امتقع، وبكى ورجى .. ثم صرخ وتركها والسيارة ومشى عى قدميه ولم يعد ..


تتنهد للمرة الأخيرة قبل أن تترك مقعدها وتفكر كيف للسيارات أحيانا أن تكون نوعا ما بيتا ثانيا لنا، او صندوق أسرار كبير ومتحرك .. يتبعنا أو ربما نتبعه أينما ذهب أو اينما ذهبنا ..
تستحظر وجهه، تشتاقه قليلا حتى من تحت اطلال النسيان ..

تنظر لوجها للمرة الأخيرة في المرآة المعلقة فوقها، تفتح الباب وتلقي نظرة أخيرة على ما سيشاهده منها، النظرة الغاضبة المناسبة للمناسبة والإبتسامة التي بالكاد تعطي حجما للحدث. تحت ابتسامتها شاهدت القلادة مرّة أخرى تتدلى ..


دائرة منقوشة تدلت من كف أمها، البستها جيدها قبل أن تذهب لشهرها الأول .. صوتها لازال رائقا ناعما كما دوما كان يرن بأذنها ..
" بحط آية الكرسي على قلبج .. عشان يحفظج الرحمن من كل محظور ومخطور .. ومسمم ومسحور!!"
ضحكت ساعتها وحادثت نفسها "كم تبالغ الأمهات!!"
لا تدري لماذا.. وهي تعلم أنه ينتظر .. قرأت آية الكرسي المعلقة على صدرها ..
ورنت جملة أمها من جديد في اذنها ..
ولا تدري لماذا اقفلت الباب وهي لازالت داخل السيارة، أخذت بعضها بصندوق أسرارها .. وابتعدت عن المكان المحظور وعن الرجل المخطور .. رحلة طوبلة بلا عودة ..

في طريق العودة .. اتصلت على أمها وقالت لها مرّة أخرى ..
"شكرا على القلادة .. إياها".


تعليقات

‏قال ~ هند ~
:)
أحب التفاصيل في كتاباتج .. تشبعني وأتطلع للمزيد منها ،،

* استفسار ..
ما شاء الله عليج ،، تبارك الرحمن والله يحفظج
> متى تلقين وقت للتأليف مع انشغالك ب العمل والمنزل والعائله؟؟

عسى الله يقويج ويوفقج
‏قال نون النساء
الحب لا يؤذي

وماكان يطلبه سعود هو الأنانية بذاتها


ومافعلته هي .. عين الصواب




أحياناً نحتاج الى مكالمة صغيرة كهذه لنستوعب مدى فداحة مانرتكبه في حق انفسنا عندما نعتقد اننا ( مانسينا العِشرة)



:)
‏قال بدون تعليق
انتي رائعة
‏قال Towtor
السلام عليكم
كل يوم بستنى كلماتك الجميلة ...كلماتك النهاردة لمست قلبى وذاكرتى ..لما شافت رقم تليفونه... الارقام دى بتكون محفورة فى القلب قبل العقل ... بس لازم ننسى الماضى ونعيش الحاضر ..ننسى الخداع ونعيش الحقيقة .

اوعى تنسينا وانتى مسافرة
ربنا يحفظك انت واسرتك وترجعوا بالسلامه.
Meshmesha
‏قال Fishah
كتاباتج تبهرني وتشدني
متابعه صامته لمدونتج من فتره
جذبتيني من قصة الفيل يا ايها الملك :)
ومن يومها اقرا كل كلماتج
ماشاء الله عليج
‏قال سبمبوت
هند

حبيبتي هند .. يقولون (( ان الرب في التفاصيل )) تلك الأشياء الصغيرة جدا التي يراها كل واحد فينا بطريقة مختلفة عن الآخر هي من يجعلنا مختلفين ومميزين. لذلك أنا ايضا أحب التفاصيل.

إن كانت الكتابة هواية وموهبة فلا ننساها ولا تأخذ منا وقتا ابدا .. هي تماما جزء لا يتجزأ منا .. نأكل ونشرب وننام .. ونكتب :)

حفظك الله

+++++++++++++

نون النساء


نمر في حياتنا بأخطاء فادحة تفتح لنا يدها وتدعونا للتقدم .. أحيانا نراها قبيحة ومخيفة فنبتعد .. وأحيانا ترتدي حلة جميلة فتخدعنا ..

علينا فقط أن نتعلم كيف نرى ما تحت الحلة .. ما تحت الغلاف دائما.


++++++++++++

أوراقي


وأنت اروع :)



+++++++++++++=

Towter

حياج الله في مدونتي ..

وان شاء الله راح أكون معاكم دائما حتى وانا مسافرة.



+++++++++++++

Fishah

سعيدة بك متابعة صامتة والآن متكلمة لمدونتي :)

أدامك الله صديقتي
اعجبني جدا الوصف الأخير عن السيارة والذكريات

مشهد متكامل أستطيع تخيلة بالألوان

انتي مبدعة

الحب هو كذلك .. مؤلم وجرح عميق لا نشعر بع إلا عندما يزول تأثير المخدر

مافعلته هو عين الصواب

فمن هو سعود .. عند حبيبها والانسان اللي شرى سمعتها وحفظها

زين تسوي فيه



حافظج الرحمن عزيزتي

هاذه متابعتب الأولى .. حسب ما اذكر .. لكن زيارتي الثانية

وسأكون متابعة لكن لا تنطرينا وايد :)

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

امرأة تحب النساء !

" غدّونة" تذهب للمدرسة !

أنا عندي أرنبه ..