عربانة أبو محسن ..


كنت اعلم انه مختلف، على الأقل بالنسبة لي!
ربما كانت الإبتسامة العجوز التي لا تفارق شفتيه، ربما كانت لمعة اسنانه الذهبية الأمامية عندما تنعكس الشمس عليها، او ربما لإن فيه شبه عام كبير من والدي! عندما رأيته لأول مرة على ناصية الطريق المؤدي لبيتي من العمل لوّح لي وابتسم، في اليوم التالي توقفت لأشتري قنينة ماء وآيس كريم الفراولة المحشوة بالفانيلا من عربانة أبو محسن.

عندما توقفت بسيارتي أمامه هب من على كرسيه، وترجل من تحت مظلته المهترأة ..
ذاتها الإبتسامة الذهبية كما أصبحت اسميها فيما بعد. عادة لا أحب ان افتح حوارات مع أصحاب عربانات الآيس كريم لإنهم يقترحون علي المزيد من الشراء بإلحاح ثقيل.
"جربي آيس كريم البيبسي كولا الجديد"، " ما تبين برد قلاصات فراولة؟" ،"شوفي هذا البرد الجديد على ماريو"، " ضقتي "ذهب" الجديد، غيروا البسكويت"!
لا أمانع الإقتراحات ولكني لا أحب كثرتها. رغبتي عادة ما تكون بمنتهى الوضوح، حتى بلا ورقة المنيو التي يسلمني إياها ابو محسن عندما اقف مقابل عربته، ينتظرني الى ان أحدد ما اريد، يضعهم في كيس صغير ويسلمها لي بلا نقاش ولا مزايدات.
في اليوم التالي لوّح لي من جديد ولم اتوقف، أحسست بتأنيب ضمير!
تلك الملامح المطحونة بمسحوق الشمس، الجلد الذي امتصت حرارة الشمس منه كل سوائله، اليد الخشنة الجافة العجفة التي تعطي وتتوقع دائما القليل. وتلك اللحية التي خضبتها الشعرات البيضاء واحدة عن كل يوم رجع به أبو محسن الى بيته وفي يديه طعاما شحيحا لأطفاله الخمسة! يخبرني يوم أن ابنته "صفية" التي لم تكمل السابع عشرة ستتزوج، يقولها بفرح وتتهلل الأضراس الذهبية في فمه وتبرق أكثر. اسأله "أليست صغيرة على الزواج؟" يصفق بكلتا يديه يقول لي " الزواج ستر للبنت .. الأسرع الأحسن!"

في طريق العودة وفي فمي برد صاروخ ذو الثلاث ألوان أفكر "بصفية" .. هل تعلمت؟ هل تسوقت يوما عندما كانت صغيرة في "كليرز"؟ هل اشترت اقراطا وردية وحذاء "كروكس"؟ وعندما شبت وكبرت واينعت، هل مشت يوما مع صديقاتها في مجمع تجاري مكيف واشترت أول حقيبة يد وأول حذاء كعب عالي؟ كم كانت لحظة اول كعب عالي مدهشة بالنسبة لي .. نقلتني داخليا بمحض ثانية من بنت الى عتبة قصر النساء .. ترى كيف انتقلت "صفية " الى مشارف النساء؟

يوم الأربعاء كنت في السوق، اشتريت لنفسي حذاء ليلكيا جديدا وفستان صيفي خفيف، وتذكرت أبو محسن و"صفية" العروس! في داخلي حزن حيالها، ولكني أبيت إلا أن اشاركها ما أتمنى أن يكون فرحها وليس مشروع مقبرتها. إحترت في الهدية، وتضايقت اكثر عندما فكرت في احتمالية أن تكون هديتي شيئا لا تعرفه ولم تره في حياتها من قبل! فكرة أن تحرجها هديتي أو تهينها بطريقة أو بأخرى أرعبتني، هذا بالإظافة الى أنني لا أعرف شيئا عن أبعاد شخصيتها، ذوقها ولا مقاسها! فقررت أن أشتري لها عطر، علبة ماكياج، وشيئا جميلا براقا من شواروفسكي .. ربما أقراط من الكريستال تليق بعروس .. أو ربما قلادة جميلة.

أنهيت المهمة .. في يدي أشيائي وحاجياتها، ثلاث علب مغلفة وجميلة .. على رأسها شرائط ملونة وورود بلاستيكية .. عدوت قفزا لسيارتي وأنا أتلهف لرؤية وجه أبو محسن وأنا أقدم له من قلبي قطعة تتمنى لقطعة من قلبه السعادة ..

أوقفت سيارتي عند عربته، وجاءني مصفقا بإبتسامته المعهودة وروحه الإستثنائية .. سألته أمازحه "عندكم برّد باذنجان وبطاط ؟" ضحك ملئ قلبه ورد بتذاكي " خالص والله .. آيس كريم فلافل يمشي؟" ضحكنا، وسألته عن "صفية". قال انها تستعد وتتجهز، هي وأمها على ماكينات الخياطة ليل ونهار: "إيشي ابيض وإيشي ازرق .. وإيشي دانتيل وإيشي ترتر". على الرغم من أنه قالها بكل سعادة إلا أنني شعرت بغصة في قلبي .. نظرت في عينيه ودعيت له بصوت عالي: يا رب يديم عليكم الرضا والسعادة يا أبو محسن". صفق بكلتا يديه، نظر للسماء ووضع كفه على صدره، استنشق هواءا كثيرا وقال:
" اللللللللللللللللللللللللللللللللللللللللللللللللله "!
***

شكرني أبو محسن من كل قلبه على الدعوة التي قال أنه لم يسمع بجمالها، وشكرني من كل روحه على الهدايا التي لم يرى مثلها في حياته من قبل!
قال لي: " تعودنا على هدايانا تكون دائما شيئا يؤكل .. الناس تعتقد أن الفقير المعتر لا يريد شيئا من هذه الدنيا غير الطعام"!
أوجعتني الكلمة، لا أدري لماذا أشعر أن أبو محسن أكثر بكثير من بائع آيس كريم يحترق يوميا على ناصية الطريق ليبيع للناس شيئا باردا يثلج صدورهم!

أصر أبو محسن ان احتفظ بالهدايا الى أن أزور بيته وأعطيها بنفسي "لصفية"، وأصر أيضا أن يكون اللقاء غدا في الساعة السابعة مساءا لكي يتسى لأم محسن أن تطبخ لي شيئا من أطباقها اللذيذة .. حاولت التملص من العزيمة قدر استطاعتي، حاولت أن أضع على عربته عشر أسباب تمنعني من تلبية الدعوة، حاولت أن اضع في عينيه تعاطفا مع ظروفي الوهمية التي تمنعني من الخروج بعد الساعة السادسة. حاولت أكثر من مرة، وبأكثر من وسيلة .. لأول مرّة يظهر أمامي إصرار بائعي الآيس كريم الغريب الذي لم أره يوما في أبو محسن. على مضض وافقت على الموعد غدا وفي رأسي مليون تحفظ!

في اليوم التالي اخطو خارج عتبات منزلي بتردد، نام زوجي بعد ان وافق أنه سيأتي معي، اتصلت بأخي وأخبرته بالحكاية فأبى إلا أن يوصلني بنفسه الى باب بيت أبو محسن وينتظرني خارجا الى أن أعود. مضطربة وخائفة أترجل من السيارة الى عمارة مهترأة في احدى المناطق الفقيرة. أطرق الباب ولا أفكر في قرع الجرس، ربما اعتقدت في داخلي أن أجراس الفقراء دوما لا تعمل!

ظهر أبو محسن، فتحت الباب ابتسامته ومصافحة حارة! دخلت وأقفل الباب خلفي، لم أكن خائفة ولكنني مضطربة ..
عند الباب الداخلي وقفت سيدة مكتنزلة تضع منديلا ملونا على رأسها وتبتسم. ضمتني ورحبت بي وقبلتني ومسحت على رأسي وربتت على كتفي وسحبتني للداخل.
تلك الروح الخفيفة التي تسكن في أبو محسن تسكن ايضا في زوجته، رضا في العيون ولسان يلهج بالأمل.

أجلس على أريكة قديمة جدا ولكنها بمنتهى النظافة والألق .. أشرب عصيرا في كأس جميل، وآخذ قطعة شوكولاته متواضعة جدا ولكنها بمنتهى اللذة. يدخل اولاد ابو محسن ويقدمهم لي: " محسن، نصير، رقية .. و هاذي العروس صفية" ..
دخلت "صفية" ففتحت عيني، زممت شفتاي وقطبت حاجباي وفغرت فاهي .. ارتسمت دون أن أعلم على وجهي ألف علامة استفهام .. ومليون علامة تعجب!

صفية طويلة جدا، شعرها طويل جدا وترتدي صفية تنورة قصيرة وبلوزة وقميص حريري من دار أزياء .. شانيل !! أكاد أقسم أنها البدلة الرسمية الكلاسيكية من "كوكو شانيل"!

ضمتني "صفية" الى صدرها، وجلست بجانبي وأنا أقاوم رغبة جامحة في لمس ملابسها، في النظر خلسة الى البطاقة التجارية فيما وراء رقبتها، حذائها غاية في الأناقة، وفي عينيها فخامة داخلية من نوع خاص..
ربما ثقة استثنائية في نفسها، أو دراية عميقة من نوع ما .. في شيء ما.

توالت الأحاديث بيني وبين أمها، ابارك لها تارة وأختلس نظرة مقتطعة الى صفية التي جلست بجانبي. تحدثني والدتها عن "هم البنات"، عن حزن فراقهن، وعن البيت الذي سيخلو بدون "صفية"! أهدي "صفية " الهدايا الثلاثة فتأخذها مني على استحياء، تشكرني كثيرا .. ويخبرها والدها أن تأخذني الى غرفتها لتريني تجهيزات عرسها ..

تقودني "صفية" عبر ممر صغير ذو جدران صفراء الى غرفة صغيرة في نهاية الممر، تشاركها الغرفة أختها رقية ولكنها تقول لي:" أن رقية الآن تنام مع والديها لإن غرفتها مليئة بالأشياء. تفتح الباب فأرى سرير حديدي هرم، خزانة خشبية مشققة وطاولة صغيرة وماكينة خياطة .. تحت الطاولة عمارة شاهقة من مجلات مكدسة ..

التفت خلفي فأجد فستان أبيض، فستان زفاف غاية في الروعة .. تذكرت أنني رأيت الفستان قبلا، وطار صوابي وأنا أقترب لأتذكر الموديل .. كان الفستان المعلق على طرف الستارة من تصميم دار أزياء " مونيك ليليي" المصممة المختلطة الأعراق .. الراقية الباهضة الثمن. تعتبر مونيك و"فيفيان استوود" من أشهر واغلى مصممي فساتين الزفاف في العالم.

الدانتيل الأبيض، الطبقات الست عشرة، الحزام الفضي .. كلها رأيتها في عرض تلفزيوني حديث جدا للمصممة المشهورة.

تحدثت "صفية" : " كنت في غاية الحيرة هل ارتدي "مونيك" ام "فيرا وانغ"، سألت والدي عن إمكانياته المادية للمواد الأولية .. أخبرته أنني احتاج ما لا يقل عن 90 دينار لأصنع الفستان الذي أريد، واعطاني. فقررت أن ارتدي "مونيك" فستانها هذا يشعرني أنني فعلا أميرة! صنعت هذا الفستان لوالدتي " فالنتينو" هو سيد اللون الأحمر، وأمي تعشق الأحمر .. لازالت تعتقد ان سر الغواية في الألوات الصارخة" .. ضحكت صفية !

فتحت "صفية " خزانة ملابسها، وارتني من كل مصمم عالمي .. قطعة!

تعليقات

‏قال ~ هند ~
اللــــــــــه ..
‏قال نون النساء
أبو محسن وعائلته مليئون بالمفاجئات السارة

مثل عربانته المليئة بها

:)
‏قال الزين
:)

تصدقين

مادري شقول

بس احس اني فرحانه حق صفية


سبحان الله رغم قلة الموراد وتواضع الزرق الا انهم اسعد من الكثير

وعندهم قدرة على استغلال مواردهم بحكمه اكبر من الكثيرات منا


البوست عجيب

اضاف ابتسامه جميله على ملامحي رغم التعب

:**
‏قال غير معرف…
مافهمت،،،يعني صفية تخيط ؟؟


الوجوه الساكنة..
‏قال ARTFUL
قبل لا اعلق

القصه صجيه بغض النظر عن الشخصيات؟!؟!


:)
‏قال سبمبوت
هند

شكرا



نون النسوة

بالضبط .. التشبيه وايد عجبني :)



الزين

ومن الممكن أن تكون فتاة صغيرة جدا .. فقيرة جدا .. غاية في الذوق والدراية. أخرجت اصرارها وحبها للجمال من عربانة والدها .. تماما مثل الصندوق السحري .. المشكلة أن الكثير منا لا يعلم أن كلنا لدينا صناديق سحرية .. في رؤوسنا !



الوجوه الساكنة

صفية بيدها وبذوقها وماكينتها ترتدي أجمل الملابس. نعم صفية تخيط.



Artful

القصة ككل مش حقيقية .. ولكن شخصية أبو محسن حقيقية وهو بائع آيس كريم لطيف حلو المعشر يقف في منطقة السرة .. ولكن لا اعرف اسمه الحقيقي.
‏قال star
حلوه القصه .. تفيض حب وتعاطف وتواضع وسعاده

من خلال القصه وصلتي لنا حكمه أن السعادة موجوده في الداخل مو في الشي الي نشوفه ونحكم عليه من بعيد

مشكووورة:)
‏قال ARTFUL
مشالله شي جميل وخيالج أجمل :)

الرضى شي جميل وهو مفتاح السعاده

ما نقول الواحد يجلس ولا يتحرك ويرضى باللي حواليه

بالعكس الواحد يتحرك ويشتغل ويشد حيله ويرضى بنصيبه لانه راضي بشغله ومجهوده وعمله وراضي بما قدمه


أسأل الله لك الرضى والسعاده

على فكرة الرضى تكتب بالألف المقصورة ادري انتي تعلميني بس ملاحظة وقلتها

تحياتي اختي الكريمه

:)
‏قال Nikon 8
كم أحب الرضى عن إمكانياتنا المادية البسيط إذا إقترنت بشطارتناوزاد عليهاالإحساس العميق إنه لا ينقصنا شيء
:)
جميلة جدا القصة
ولا أم الأحمر والغواية لوووووول
متى تشبع حواء من الغواية ؟
‏قال الخيلاء
السعاده الحقيقه بالقلب

لا بنفنون بالاف ولا بدواره شهرين قبل المناسبه و الزعلان اكثر من الراضي

متى ما كان الانسان راضي بنصيبه بالحياه و يتعامل مع وضعه بقناعه

بيكون اسعد الناس

الله يوفق صفيه و يفتح عليها

:)
‏قال Yin مدام
ماشاءالله عليج يا سبمبوت
أوصلتي معنى الحياة السعيدة وكيفية تحقيقها باستغلال ما أعطانا الله من موهبة ونعمة الرضا وتثقيف النفس والتواصل الإنساني الراقي من خلال قصة مشوقة ورائعة


صفية إنسانة راقية على رغم قلة مواردها
عكس ناس وايد يغطيهم الألماس من راسهم لين ريولهم ويفتقدون أبسط القيم وأثمنها


الله يرزقنا وإياكم الرضا الدائم واليقين الصادق قولي آمين
:)
‏قال لحظه
وانا اقرى عشت مع القصةه والله العظيم قبل لا اقرى التعليقات وطول ما أنا اقرى القصة حاطة جدام عيني راعي البرد اللي عند ممشى السرة مادري ليش لأني طول ما أمر صوبه في بالي يكون مليون قصة وقصة
تسلمين حبيبتي دايما مبدعة
‏قال aL-NooR .
ما شاء الله
نهاية البوست
ادمعت عيني ...
هل تفسير السعادة ..مختلف
ام بنا يختلف ؟ ...

***

حلقت بنصك الجميــــل للبعيد
D:.... يمكن يمكن اصير صديقة صفية p;
‏قال الحــــر
جميل جدا
طرح راقي

دمتي بخير
:)
السلام عليكم


عزيزتي سبمبوت

حياك الله أنتي و زوار مدونتك

في مدونتي

أختكم أطياب الإيمان
‏قال Yang
رائعة, من روائعك يا اختي


الله يوفقك, ويجعل هالقصة عبره لنا بالرضى.

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

امرأة تحب النساء !

" غدّونة" تذهب للمدرسة !

أنا عندي أرنبه ..