خمسة من جديد !



(5)
أنا وعبداللطيف، عبداللطيف وأنا مثلما بدأت قصتنا بتعارف مضطرب على حافة مرحلة عمرية، تبدأ مرحلتنا الجديدة انا وهو على حافة مرحلة عمرية أخرى. كم كبرنا، وكبرت معنا مشاغلنا وملاهي الحياة من حولنا.
كم أصبح اللقاء في الخيمة صعبا ومضنيا بعد أن تركها قاطنوها وأصبحنا نحن الإثنان بقايا صحبة استثنائية لن تعود من جديد!
أنا وعبداللطيف وثالثتنا خيمتنا والليل الذي يطل علينا بكل ذكرى كانت يوما جميلة. لا نعودها إلا ونتذكر ما قاله ضاري عندما جلس في الزاوية، لا اراديا كلما ذكرنا اسمه التفتنا الى قبر الصورة والرمل والوتد. نكتة ناصر وهو يقف على رأسه، ومكان ناصر المخصص للنوم في الربعة الشرقية!
اين من الممكن أن تذهب كل تلك الذكريات إذا لم نعد نعلكها انا وهو كلما وجدنا أنفسنا وحيدين في خيمة طفولتنا؟

سألته مرّة وهو يجلس على الكرسي المقابل لسريري بينما كنت منهمكة في ضب الذكريات بشنطة سفر، إن كان سيتذكرني بعد عشرون سنة؟ بعشوائية حرك قدميه ورفعهما من على الأرض ليتسنى للكرسي الدوّار أن يفتل، دار عبداللطيف بكرسي مكتبي أكثر من ثمانية مرّات، أقل بواحدة من السنوات التي قضينها معا .. اعلم أنه كان يصارع دمعة ويخفيها عنّي بالدوران!

كيف لنا أنا وعبداللطيف أن نبدأ مثلما بدأنا وننتهي مثلما سننتهي الآن؟ لماذا لم نعادي بعضنا ويكره كل واحد فينا وجود الآخر في الإنعكاس الجغرافي المقابل لغرفته؟ لماذا لم يضربني عبداللطيف مثلما كان يفعل اترابي من الصبية؟ ولماذا لم أحس منذ بداية البداية أنه سخيف وتافه؟ أو ما الذي جعلنا لا نشب في عيون بعضنا؟ لماذا لم تنشأ بيننا علاقة عاطفية مثل التي تغنت فيها الأغاني العاطفية الشامية القديمة ؟ كان ابن الجيران يحمل فوق رأسه لافتة مليئة بإحتمالية العشق الأول، لماذا لم أجد تلك اللافتة تشع بأضواء نيون من على جبينه؟ لماذا أخذني عبداللطيف في تلك الليلة الى الخيمة، جعلني واحدا من الأصدقاء ولم يأخذني لمكان شاعري نتقاسم فيه مبادئ قصة ساذجة لحب محتمل؟

توقف عبداللطيف عن الدوران، وضع عينه في مكان بعيد عن عيني وأخبرني أنني الحقيقة الوحيدة الباقية من أجمل البوم صور اقتناه في حياته! سكت، ثم قال لنفسه: " لم أعد استطيع لمس الآخرين"!

أسافر اليوم الى امريكا، احمل بين جناحاي حنين مبكر للوطن، للخيمة، وشوق يكاد يشق جدار قلبي لعبداللطيف. سيسافر هو الآخر بعدي بإسبوعين الى اسكتلندا للإلتحاق بجامعة عسكرية مرموقة جدا، سيصبح عبداللطيف الصبي ذو الشعر الموقوف قسرا عن الميلان والمعطف الأسود الغامض الذي كان يرتديه في ليلة الإختطاف .. طيارا حربيا!
وأنا؟ ماذا سأصبح انا؟ ولماذا أهرب الى بلاد بعيدة جدا عندما اكتشفت أنني في طور الإنقراض؟ أصدقائي كل اختفى بطريقته الخاصة .. علي أنا ايضا أن اجد طريقة دراماتيكية للإختفاء، ولا سبيل غير السفر.

في مطار نيويورك أمشي ببطأ، لم تكن المرة الأولى ولا الأخيرة التي أزور فيها التفاحة الكبيرة كا يسميها الامريكان. جاف المطار وبارد تماما مثل الشوارع والأزقة المعتمة المخيفة في مانهاتن ما وبعد جسر بروكلين! لم يسمح لي والدي يوما أن اقطن بروكلين يقول أنها مليئة بالمجرمين. لم يستوعب والدي يوما أن نيويورك مكان بروح مظلمة، ساعته نست الوقت او الوقت نسيها، والناس نسوا ان هناك شيئا في جوف الناس الآخرين يسمى عاطفة! كيف لي أن اترك الكويت والخيمة التي ملئتني املا متدفقا وحبا استثنائيا للصداقة والحياة وآتي راغبة الى نيويورك ..أدرس في جامعتها وأعمل كمتدربة في واحدة من أكبر شركات الموضة والأزياء وأكثرها شراسة! أنا ونيويورك سطران في قصة واحدة .. لا يمكن أن يتفقان على نهاية مرضية.

ما إن أصل حتى أتصل بوالدتي وأبشرها بالسلامة! ألمح ارتجاجا بصوتها وحنينا لا يغيب، أقفل السماعة من امي لترن سماعتي هي الأخرى بصوت "حنان" صديقة الثانوية التي تدرس في NYU قبلي بفترة دراسية واحدة .. اتفقنا مسبقا انا وهي أن نتشاطر شقتها الشاهقة في واحد من ابراج مانهاتن. أحب حنان، ولكني لم اعتد كثيرا على ملازمة النساء! أحاديث الحب والعشق والإعجاب والغمزة والإبتسامة لا تسليني، ربما لإنني منذ سن مبكرة جدا رأيت كل تلك الأشياء بمنظور آخر ومفهوم مختلف.

أنا حقا لا أعرف إن كانت الخيمة صنعت شخصيتي ام ألبست أنوثتي ثوبا فضفاضا من فوضى المشاعر! لماذا لا أتكلم مثل البنات؟ لماذا لا اتبضع مثلهن؟ ولماذا لا أشعر بأهمية قصوى لأجعل شعري مستقيما؟ عادة ما اتركه هكذا بالعراء، متموجا متعرجا كما اتفق اليوم مزاجه، لا يهمني أن اكون منسقة الى درجة خارقة من الكمال! وعندما رأينا أنا وحنان "باريس هيلتون" في زيارتنا الأخيرة الى لوس آنجلوس، اشتعلت حماسا هي .. وأنا لم استطع أن امنع نفسي من الشعور بالشفقة على باريس وعليها!

إكتشفت .. أنني أخرجت نفسي من الخيمة .. ولكن الخيمة لم تخرج مني الى الآن!


سافرت اليوم الى نيويورك! لا أعرف لماذا تحب تلك الفتاة المصنوعة من نُوّير كل البلدان الباردة الباهتة إلا من ضباب. من بين السهول الخضراء، والفراشات الوردية، والشواطئ القرمزية تختار مكانا موغلا بالظلام. عندما ذهبت لنيويورك للمرة الأولى حاولت ان ارسم خيطا وأصله بين انفها وأنف تمثال الحرية؟ دققت في ملامحهما الإثنتان اكثر، على متن عبارة وقفت بجانبي، يتطاير شعرها المموج في وجهي، اخذتني برحلة الى جزيرة إيليس ثم الى السيدة ليبرتي ..

هناك التقطت لها صورة، تضع تاجها، ترتدي معطفها وتحمل مشعلها .. ولكنها أبعد ما يكون عن صنمية التمثال الشهير وقلبه البارد! قلت لها ارقصي .. فرقصت! تموج معها المعطف وتمايلت الشعلة .. ففشلت فشلا ذريعا بإلتقاط نقاط التشابه فعدنا للعبارة وقطع الحبل.
سألتني قبل أن تسافر إن كنت سأتذكرها بعد عشرين سنة؟ ربما لن اتذكر إلا هي!
الفتاة التي علمتني كيف بإمكاننا نحن المختلفان عن بعضنا أن نتوحد في خيمة بلا عواميد. أن نضع أجناسنا وتواريخنا .. ما خلفنا وما بعدنا جانبا ونتحاكى كبشر! لا هي إمرأة ولا أنا رجل. الفتاة التي عرفتني كيف أحترم الشعر الطويل قبل أن أراه حبال غواية تشدني للبدن قبل الروح. كيف لنا انا وهي وثلاث صبية أن نتآخى على فنجان شاي، ونضحك من داخلنا على نوايا سيئة ضمرناها يوما لبعضنا!

بعد ثلاث سنوات من أول يوم جاءت فيها الى الخيمة صارحني واحدنا بإهتمامه الخاص بها، نظر اليها من الخلف وغمز! ساعتها أوسعته ضربا وقذفته في زاوية الخيمة – كنا وقتها في الخامسة عشرة - اعتذر ونام. لم تعرف يوما عن الحادثة، ولكنها فهمت مع الوقت أنها يجب أن تكون صريحة ومريحة معنا، فأخبرتنا أنها لم ولن تحمل شعورا عاطفيا يوما لأحدنا .. وقالت لنا بالحرف الواحد :
"من في عينية شرارة شقاوة فليخبرنا الآن لنرش في عيناه كومة رماد!"
من ساعتها .. ونحن فعلا أصدقاء، بإستقامتها معنا نفت احتمالية انوثتها الطاغية في منظورنا وأصبحت مع الأيام إنسانا جميلا .. لا إمرأة جميلة!

في برد يناير القاسي، على هضبة في اسكتلندا، على سريري .. اقابل نافذة غير نافذتها ، ارسل لها بريدا الكترونيا عبر الإنترنت أسألها عن أحوالها وإن كانت تشتاق الكويت؟ ترسل لي بعد دقائق : " سآتي بالصيف بعد ثمانية شهور .. هل سألقاك؟"
أجري لرزنامتي وأرسل لها : " سأكون هناك ".



خمسة من جديد ..
قلوبنا تلك الطائرة شوقا على متن طائرة حقيقة نركبها فتوصلنا بإصرار الى المكان الذي نريد! على مدى عشرين ساعة اتعلق بقشة في السماء .. لم أشعر يوما أنني أكاد أقع من طولي شوقا لأحداث وذكريات وبشر. في كل أسفاري السابقة كنت اعود لحض امي .. اليوم انا أعود لحضن نفسي.

أقرأ كتابا في مقعدي أم هو يقرأني ؟ آكل ألواح الشوكولاته المحشورة بين درفتي بسكويت ويفر هش واستمتع بالقرمشة .. لماذا أنا بغاية السعادة؟ لم تكن المرة الأولى ولا الأخيرة التي أسافر فيها وأعود .. ربما علم حدسي ان هناك شيء ينتظرني ...

أصل الساعة التاسعة مساءا .. والوجوه السمراء تحييني .. المح أشياء للمرة الأولى لم أكن اعيرها اهتماما .. أكتشف أنني أعرف الكثير عن هؤلاء البشر، عن تلك السيدة التي وقفت بإنتظار الإبن العائد من دراسة، اعرف أنه ولد لإن طوق الورود الذي تحمله بيدها أصفر لا وردي ولا أحمر.
اعرف تلك الجدة القابعة على كرسيها المتحرك على واحد من كراسي ستاربكس. لا تشرب القهوة بل ماءا باردا، تلك العجوز تنتظر حفيدتها العائدة هي الأخرى ايضا من أمريكا .. اعلم ذلك لإن على طاولتها وضعت صحنا كريستاليا ملئته حلوى منثورة وبتلات ورد .. جاءت الجدة لتزغرد لعودة حفيدتها وتنثر عليها وردا ونون.

أمشي في القاعة وأطالع الوجوه التي ارتسمت على جباهها لي أسئلة عشوائية: هل تعرف تلك الفتاة ابني؟ هل هي صديقة ابنتي؟ هل كانت في ذات الطائرة مع حفيدتي ؟ ابتسم .. لإن الإبتسامة – حتى لو لم أعرف الجواب – تعطي شعورا بالتفاؤل وجوابا ايجابيا على الأسئلة المتناثرة.

ألمح عين امي، شعرها اللامع، وساعتها الثمينة .. اجري نحوها واضمها وأشم رائحة طفولتي، عطرها الذي لازلت أسرق عبيره وخصل شعرها الناعم الذي لا امانع إن دخل بأنفي او فمي! تمسك يدي وتحكي .. ونخرج انا وهي على صوت الزغاريد والعناق وارتطام الحلوى على ارضية المطار!

لا أسأل امي عن عبداللطيف .. ولا هي تتطوع بأجوبة، نصل البيت فأخبرها أنني سأدخل بعد أن اقضي مشوارا سريعا .. تطير من راحة يدي بإتجاهها قبلة، تلتقفها وتضعها على صدرها ..

أجري .. أركض عبر البيوت المكتملة التي كانت يوما قيد التشييد، اجري عبر البراحات الخضراء التي كانت يوما مساحات من الرمل الأصفر .. أجري بين السيارات المركونة التي تبدلت أشكالها وتغيرت ماركاتها الى أفضل وأحدث وأغلى ..

عبر الشجيرات التي شبّت ونضجت وعلت لما فوق قامتي .. بين الممرات الضيقة بين البيوت، بعد محوّل الكهرباء الأخضر وكل ما رسم عليه من وجوه وكلمات .. الى المساحة الرملية المسيجة بالأشجار، الى البوابة الصغيرة التي لا نعلم من وضعها .. الى الوسط ..

أقف .. ألحق أنفاسي .. اتمالك طيور شوقي .. اتوجه الى الخيمة ببطئ، تمسكني يد وتشدني للوراء .. اهلع والتفت وأراه، اضمّه وابتسم وأستحم بإبتسامته .. يضع اصبعه على فمه ويخبرني صامتا بالسكون. يأخذني الى ما وراء الشجيرات يشير لي الى الخيمة:

أصوات .. وضحكات شقية .. وظلال خيالات صغيرة ..

منها خرجت اربع فتيات صغيرات .. وصبي واحد
انتهت ...

تعليقات

‏قال Sweet Revenge
تحبين الدوائر سبمبوت :)
حبيت قصتج وايد ,ذكرتيني بطفولتي
بس الفرق ان ما اجتمعت باصدقاءالطفولة مرة ثانية
دوائرج كاملة مهما كبرت ترجع لنقطة البداية
ياريت اقدر اكمل دوائري مثلج
ابدعت ام غدن
‏قال نون النساء
الحياة عجلة كبيرة ..

الخمسه عادوا في دورتها وبشكل معاكس تماماً هالمرة ..



اتخيل هل هذا الصبي سيتحدث يوماً عن تجربته الخيمية مع اربع فتيات ..


أتوقع ان تجربته ستكون كتجربة الفتاة مع الأربع صبية ..





استمتعت جداً بأحداث القصة
وحزنت بلعضها ..
وابتسمت ..
ولم أرضى عن الإبتعاد الذي حصل اخيراً
مع ان الأمر لا يعنيني ..


بس جميلة يا سبمبوت ..
‏قال ARTFUL
وليلحين الدنيا تدور

تسلمين على القصة الأكثر من رائعه


:)
‏قال Nikon 8
حبيت الذكريات الجميلة
وحبيت أكثر اللقاء بعد طول غياب بنفس الشوق والتفاهم .... لا شيء تغير
:)
يزعجني لقاء من زاملتهم طويلا وفرقتنا السنوات ثم جمعتنا صدفة لأصدم بنفوس غريبة لا تشبه الذين عرفتهم !!!
الله يعطيج العافية على القصة الحلوة
‏قال ~ هند ~
حبيت القصه وااااايد ..
ومو عارفه على شنو أعلق .. كل شي بالقصه حلو..

بحلاوة روحج
=)
‏قال Angel Orchid
الصراحة القصة اكثر من رائعة

ماعندي مشكلة اني اقرئها اكثر من مره

يعطيج ألف عافية :)
اجمل ما قرأت اليوم

يترى ماهو شعورك أول وهله رأيت بها مالكي الخيمه الجدد؟

لكن مالم افهمه منو اللي سحبج بالاخير؟

تسلمين عزيزتي عالقصة
‏قال غير معرف…
https://www.blogger.com/comment.g?blogID=2786414665634723211&postID=5755046435761374626
‏قال غير معرف…
برافوو


قصة محرضة للهرولة ورائك لتقليب كل كلمة وكل حرف كان في الطريق،،،،و لم تضعية عبثا

كنت متابعة منذ ساعاتها الاولى وفضلت عدم التعليق الا بعد اكتمال الفكرة

جميل خيالك

رغم واقعية الاماكن والملامح،،


الوجوه الساكنة
‏قال aL-NooR .
ما يسعني الا الابتســـــــــامة
الكبيـــــــــــــــرة

D:
تسلم ايدج

*************************
‏قال ZooZ "3grbgr"
كنت يايه اكتب
"مادري شقول"
وابتسم



لقيت ان اغلب المعلقين ما عرفوا شيقولون

:")

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

امرأة تحب النساء !

" غدّونة" تذهب للمدرسة !

أنا عندي أرنبه ..