بعيدا من هناك ..








لم تصدق اذناها عندما تلقت الإتصال من والدتها، كم مرّ الوقت سريعا وانتهت السنوات التي كان المفترض ان تقضيها دلال في الغربة. و كأنه الأمس عندما التمّت العائلة توّدع الراحلة الفتيّة لبلد يقع في النصف الآخر من الكرة الارضية.

تتذكر ذلك اليوم جيدا قبل خمس سنوات، كانت الام تبكي بحرقه، و الأب قد ارتسمت على ملامحه تلك التوليفة الغريبة من صمت وجمود، دائما ما يكون وجهه جامدا عندما لا يجد شيئا يقوله.
هو رجل من مزيج غير متجانس من الماضي والحاضر، من الجهل والتعلّم و الهيبة واللاوجود.
الأخوة الأولاد الكبار كانا في زاوية ضائعة من المكان، يقفون بعيدا يتفرجون على حفل الوداع وكأنهم لا يريدون ان تتلطخ يداهم بقرار القبول الغير متوقع! أصّر احدهم على والديه ان لا تذهب اخته الصغيرة للدراسة خارج الكويت، برّر ان الزمن لا أمان فيه، وامريكا بلد مليء بالمخاطر والمغريات. صرخ وانتفض ان البنت لا تؤتمن على نفسها، "وبنات هالوقت "يرعيين" وما تردهم اخلاق ولا وازع ديني" و جاء بآيات قرآنية و أحاديث نبوية تخدم الموضوع احيانا ولا تخدمه احيانا أخرى. أقفل الأب - ببادرة غير مسبوقه- اذناه واستمر في استكمال اوراق ابنته دلال.
أما دينا "آخر العنقود" فقد امسكت يد دلال بشغف وأخذت تقبلها كلما سنحت لها الفرصة، تبكي تارة وتوصيها بالإتصال الدائم وارسال الصور والأخبار يوميا عبر الإنترنت.

كانت دلال سعيدة، تتقافز نظرات نزقة من عينيها، كانت في غاية الحماس لتبدأ مرحلة جديدة من حياتها بعيدا عن كل شيء عرفته منذ ولدت، كل المفاهيم والمعتقدات والدروس والتقاليد لن تأخذها معها في حقيبتها ولن تلحقها الى هناك. كانت تعتبر المرحلة المقبلة بمثابة اعادة بناء نفسها من فتاة عاشت تتلقى التعليمات الى امرأة ستصنع بنفسها تعليماتها، من فتاة يقرر لها والداها متى ترجع للمنزل، و ماذا ترتدي، من ترافق و اين تذهب، الى امرأة تصنع قوانينها وتلون حياتها بخطوط بيضاء وحمراء تخطها بيدها لا بأيدي غيرها.

عندما قربت ساعة الرحيل أخذ والد دلال حقيبة سفرها ليضعها في السيارة، و أخذت الأم ابنتها بعيدا عن باقي العائلة، ضمتها الى صدرها، قبلت رأسها و أوصتها بالصلاة. كانت دلال لا تصلّي بانتظام و الأم تعلم بذلك، و لكنها قبل الرحيل اهدتها اضافة الى دموعها سجادة صلاة و قرآن كريم: " لا تنسيهم يا دلال .. لا تنسي الله .. فإن تذكرتيه سييتذكرك .. ان ضاق صدرك عليك بالقرآن .. و ان كثرت همومك و استعصت عليك غربتك صلّي لالله ركعتين، فهو كفيل بازالة الهم و ازاحة الكرب" آخر الكلمات التي قالتها الأم وتركتها تبتعد.

خرجت دلال متوجهة للسيارة التي ينتظرها فيها والدها و اختها الكبيرة دانة، لم ترغب الأم في الذهاب للمطار، و لم يقدّم الاخوة الكبار خدماتهم في المرافقة.

عند بوابة المغادرة وقفت دانة و دلال تتعانقان، تبكي كل واحدة فيهن بحر دموع، دانة كانت رفيقة احلام دلال رغم الفرق الواسع في العمر بينهما، ستة عشر سنة عاشتها دانة قبل ان تأتي دلال الى الحياة، مرّت خلالها بأضعاف ما مرّت به دلال من المشاكل التي تأتي بها كل فتاة مع لحظة نطق نوع جنسها في المستشفى، و لكن الوطئ كان مع دانة اكبر و اعمق بحكم الزمن العتيق و قِدم المفاهيم و صرامة العادات و التقاليد.
حتى بعدما تزوجت دانة من رجل تقليدي اكمل بدوره مسيرة والداها في المحافظة عليها و صون كرامتها من كل ما هو مشين، اكملت دانة مسيرة احلامها بشخص دلال و خصوصا بعدما رأت قلادة "حرمة الأنوثة" تتوسع شيئا فشيئا من على رقبة اختها، فالوقت يتغيّر باستمرار و النظرة السائدة للفتاة " ما ردها لبيت زوجها" تتبدّل الى مرحلة جديدة كليّا من " اخذي شهادة تضمن مستقبلج بعدين الزواج".
حلمت دانة ان تسافر للدراسة في الخارج بعد ان تلقت خبر امكانية ابتعاثها من قبل حكومة الدولة، فقد كان معدلها الدراسي يؤهلها لتكون في صفوف المبتعثين و تميزها في الثانوية يجعلها من اكثر الأشخاص الذين من الممكن ان يكون النجاح من نصيبهم في عدّة مجالات، و لكن الحلم وؤد في مهده عندما أصرّت وادتها على الرفض، و أبا والدها حتى مناقشة الفكرة، فقد قال مقولته التي لم و لن تنساها دانة منذ اكثر من سبع سنين: " انتي اكيد جنيتي .. تبين تسافرين بروحج، تعيشين و تدرسين هناك بدون لا رقيب و لا حسيب عشان ترجعيلي حـــامل !!؟ آنا مينون اخليج تسافرين بروحج .. ما تشوفين سوالف البنات تشيّب الراس و هما اهني عند اهلهم .. هالدور بتروحين بروحج بلاد ثانية؟"
تلقت الصفعة .. انتهى النقاش .. و قتلت الفرصة.

مسحت دموع دلال و نظرت طويلا في عينيها، ابتسمتا و كأنهن فهمن رسائل خفية تشير الى انتصار الطموح و هزيمة عقدة الانثى الناقصة الأهلية، ضمّت دانة اختها الى صدرها للمرة الأخيرة و أسرّت في اذنها: " لا تنسين التحدي .. لنا موعد معاه بعد ما ترجعين"، اومأت دلال برأسها و ضغطت على يد اختها .. و غادرت.

عندما جاء اتصال والدة دانة تخبرها ان دلال انتهت من استكمال دراستها و ستعود للوطن بعد ثلاثة ايّام، شهقت بفرح، و اخبرت والدتها انها فخورة جدا باختها، تحدثتا عن الوقت الذي مرّ بسرعة و عن البنت الصغيرة التي تغلبّت على الغربة و عادت بشهادة عالية و تعليم مرموق. و شرعتا في تنسيق المهام بينهما حول تنظيم حفل الاستقبال، فالخالات و العمّات و بناتهن سيأتون الى بيتها انتظارا للقادمة من بعيد، ستكون بمثابة الحفلة المفاجئة لدلال، فهي لا تعلم ان الجميع سيكونون بانتظارها. اقفلت دانة من والدتها و اخبرت زوجها بالخبر السعيد، فرح لفرحها و اعطاها مصروفا اضافيا لتشتري هدّية عودة جميلة لأختها. هو يعلم كم تحب زوجته اختها و كم تفتخر بها، و يعلم ايضا انه يحب زوجته و يفتخر بها رغم كل فرص التعليم المتقدم و العمل الطموح التي رفضها بدوره عليها بحجة الأولاد و البيت و المسؤوليات و الأولويات. هو ايضا متعلم و يشغل منصبا كبيرا في مجال تدريب و تطوير الموارد البشرية، و لن يمانع فرحتها باختها بل سيفرح معها طالما ان الانجاز قد تم من قبل شخص آخر بعيدا عن ملكيته لوقت و طاقة و مجهود زوجته.

جاء اليوم سريعا مليئا بالأمل، لم تر دانة دلال منذ ما يقارب السنة و النصف بعد زيارتها الأخيرة للوطن، تتذكرها كانت دائما جميلة – طموحة و ذكية، تحب نفسها و تثق بقدراتها و لا تسمح لأحد ان يأخذ منها آرائها. فقد دخلت في نقاش حاد مع احد اخوتها في الزيارة الاخيرة و عندما قاربت على السيطرة على الحوار و دحض حججه الغير مدروسة، ثار و غضب الى ان رفع يدا جائرة عليها ليخرس حجتها الصلبة بالطريقة الوحيدة التي تعلمها مهربا من تفوّق النساء، تدخل الأب بسرعة و انزل اليد المرفوعة بازدراء: " متى رأيتني امّد يدي على واحدة من نساء بيتي؟" سأله الأب و الشرر يتقافز من عينيه.
ردّ الابن و قد اخذته حميتة غبيّة على رجولته، اخذ يتمتم و يدمدم بهي قالت و هي فعلت، قللت من احترامي، و نعتتني بالغبي! أخذ كل الحاضرين ينظرون الى بعضهم، فالكل قد سمع محاور النقاش منذ البداية و لم يلمح احدا تقليلا للاحترام او نعوتا من اي نوع. شعر الأخ بالغباء بعدما عجز عن استكمال الحوار فسمع صوت الغضب داخله يخبره انها اهانته فثار و ارعد رعدا خائبا بلا تأثير. كانت دلال وقتها سعيدة بالموقف، هاتفت دانة تخبرها بما حدث، لا زالت تتذكر ما قالته اختها بالحرف الواحد:" اعلم انك تعبتي من محاولات اثبات لوالدينا بأننا نحن النساء من الممكن ان نكون اشخاصا يوثق بنا و يعتمد علينا، و أنا اليوم اثبت و لو جزءا صغيرا من رسالتك". اثلجت صدرها اختها و علمت انها خير من يوصل الشعلة.

تجمع الأهل بانتظار المحتفى بها، و ذهب الأب وحيدا هذه المرّة ليقل دلال من المطار تنفيذا لخطة المفاجأة، وصلت للمنزل لتجد الجميع بانتظارها، يبكون، يباركون، يصفقون و يضمونها الى صدورهم بفرح. كانت البهجة تملئ المكان و عيني دلال تبحث بين الوجوه عن وجه طالما انتظرت لترى الفخر بعينيه، و تلاقت عيناهما، دانة و دلال من خلف الاجساد، تعانقتا و قرصتا الحلم الكامن بينهما الى ان غادر حضنيهما واقع محقق. ابتعدت دلال عن اختها قليلا و ربتت على بطنها النحيل: " لقد ربحنا التحدّي .. لا يوجد شيء هنا" ..

على الرغم من مفارقة التوقعات الجائرة إلا انهما ضحكتا من اعماق قلبيهما.


تعليقات

‏قال نون النساء
يحضرني الآن وجه عائشة أخت احدى صديقاتي التي غادرت قبل اسبوعين الى الولايات المتحدة .. وتذكرت والدها عندما كنت صغيرة ..


الدنيا تتغير والناس وكذلك والد عائشة الذي لم يوافق ان تستكمل ابنته الأكبر من عائشة دراستها الجامعية وفضل تزويجها لأبن عمها

:)


الدنيا تناقضات كبيرة
امثال دلال وعائشة هم من يستغلونها لتبتسم لهم ..





ولكن ما احزنني في القصة
هو تصور وتخيل البعض بأن نسائهم مشاريع حية للفجور والزنا تعيش في بيوتهم ويجب ان يتم مراقبتهن والحفاظ عليهن والسفر للدراسة او حتى لقضاء العطل يعني العودة ببطن منتفخ أو بطفل تحمله في حضنها ..

هالنوع من التخلف يثير عصبيتي..
‏قال ARTFUL
جميييل جدا والله ترا استمتع بالقراءة ماشالله عليج

بس عندي ملاحظة

وايد متحاملة على الرياييل

:)
‏قال t.q8
القصه اكثر من رائعه
وللاسف العرب يهدون عيالهم وهم صغار ويحاولون يمسكونهم وهم كبار
بعكس الغرب الي يربونهم على الاعتماد على النفس وغرس المبادء والقيم
وتركهم لهم حريه رسم حياتهم وهم كبار
‏قال The.One
سبحان الله قبل دقائق معدودة بالضبط
كانت أختي تتأكد من جدول موادها بالجامعه..

فصرخت فرِحـة !!
لا أصدق عيني بالأمس كنت قد أتممت بضع وحدات والآن لم يبقـى لـي إلا القليل منها

كم مرت السنين سريعـا
وهاهي تنتظر سنـة بالغربـة فقط لتلبس ثوب التخرج


وماشاءالله البوست جاي جيّة بالضبط :)
شكــرا
‏قال Nikon 8
مبارك عليكم الشهر
:)
‏قال بنت الشاميه
اكرمكم الله بشهر رمضان بعفو وعافيه و مغفره منه......مبارك عليكم الشهر
وعساكم من عواده
‏قال Sweet Revenge
مبارك عليج لشهر ام غدن :)

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

امرأة تحب النساء !

" غدّونة" تذهب للمدرسة !

أنا عندي أرنبه ..