بياض !!

من أول خطوة يخطوها داخل البيت .. من الباب، شعرت بإمتعاضة ..
- هل سمعتِ من سكن في الشقة التي فوقنا؟

كنت أعلم من تكون، قال لي صاحب البيت على الهاتف ليلة أمس أن هناك ساكنين جدد في الشقة التي فوقنا، واعتذر مقدما عن أي ازعاج سينتج عن نقل العفش، وعندما سألته .. "بيت منو؟" .. قال لي أنها هي!
تبسمت بيني وبين نفسي:
- الم يجد "بو سعود صاحب البناية" جيرانا لنا أكثر غرابة منها؟!

"سلمى الراوي" كاتبة صحفية، مفكرة ومؤلفة معروفة، دكتورة في العلوم السياسية ودرست ايضا علم الأديان وتبحرت في المقارنة والتدقيق والتمحيص بين الديانة اليهودية والإسلام! وخلصت في النهاية الى أن الإسلام ما هو إلا نسخة منقحة من اليهودية. وأن القرآن والتوراة وجهان لعملة واحدة مع بعض الإختلافات الطفيفة - لزوم التمويه - على حد قولها.
"سلمى" واحدة من اكثر الكتّاب والمفكرين المحاربين في هذه الدولة، خصوصا من التيارات الإسلامية. جريئة وقويّة ولا تتكلم إلا بالنصوص المأرخة المكتوبة والدلائل والبراهين الموثقة، لذلك يجد الشخص العادي صعوبة في مواجهتها والمناظرة معها. يجب أن يكون الشخص بمستوى عالي من العلم والدراية في الأديان الأخرى لكي يسير معها في مشوار حوار علمي متكافئ لا يضعه في نهاية المطاف بزاوية الجهل واللامنطق غير مريحة!

زفر زوجي :
- عندما علمت بالخبر ليلة البارحة لم استطع النوم، كيف سنعيش في بناية واحدة مع هذه الملحدة؟

زوجي متزمت دينيا، حميته لدينه تأخذه أحيانا الى دهاليز مظلمة من مقت اللآخرين وعدم المقدرة على التعايش معهم. يعتقد انه يجب يدافع عن الله والرسول الكريم في كل مناسبة حتى وإن لم يردد أحدهم الصلاة والسلام على الرسول بعد ذكر اسمه! صرخ زوجي في وجه زوجة اخيه الأكبر عندما نست الترديد، واتهمها بالبخل والمكر والدهاء. كان تصرفا غريبا بالنسبة لها ولكل افراد العائلة الجالسين على مائدة العشاء، ولكنه لم يكن غريبا ابدا بالنسبة لي. فكرت من يومها:

- كيف أدخل السماحة الى قلب زوجي، وأعلمّه دون ان يشعر أن الدين جنة القلب لا ناره الموقدة!

أنا ايضا ملتزمة ولله الحمد، ولكن نظرتي للدين مختلفة. وجوده داخل قلبي كقناعة ورضى يمكنني من فهم وجهات نظر الآخرين والتحاور معهم بهدوء وروية.

في مواقف السيارات المرصوفة خارج المنزل المحها، تترجل من سيارتها بشعرها القصير وجسمها النحيل وملابسها الفضفاضة البيضاء. تحمل في يدها اكياس مشترياتها من الجمعية التعاونية القريبة، أحسست شعورا دافقا داخلي بخفة روحها. لمحتني وأنا المتشحة بالسواء إلا من عينين فضوليتين فإبتسمت وسلمت علي. ارتبكت، تقدمت نحوي .. وضعت اكياسها على الأرض ومدّت لي يدها! توقف الزمن فيني للحظة :

- هل أمد انا الأخرى يدي؟ هل ستتسخان مثلما قال زوجي؟

لا يهم فأنا ارتدي قفازات ستقيني حتما من نجاستها ..!
في بقعة ما في منتصف الطريق، بين سيارتي وسيارتها تجاذبتُ أنا المحجبة المنتقبة ذات الرداء الأسود أطراف حديث حلو خفيف مع الملحدة العاهرة الزنديقة التي تسب الدين. الدكتورة التي تسممنا بفكرها، الكاتبة الضليعة في كل ما نُمنع عن قراءته، المرأة التي يحرقون أصحابنا كتبها، ويمرغون صورها واسمها بالوحل والتراب!

تلك المرأة التي لم تفكر للحظة أن تخاف مني، حدثتني وعرفتني عن نفسها وكأنها شخص ناصع البياض، ليس لديه ما يخفيه أو يخجل منه! انسلخت في لحظة انسانية بحتة عن علمها وحروبها وتاريخها المتناثر على صفحات الجرائد وشاشات التلفزيون، تجردت من مناظراتها الشهيرة مع رؤوس الدين، ونست انتصاراتها وانهزاماتها .. ووقفت في وسط الشارع تتحدث معي امرأة لإمرأة .. انسانة لإنسانة .. جارة لجارة!

صافحتني وداعا .. توجهت هي للداخل، وانا صعدت سيارتي .. ودون شعور قربت يدي التي صافحتها بها من أنفي .. لأشمها!


***


على الغداء وددت لو أقول له أننا تحدثنا، وانني وجدتها انسانة طبيعية جدا بلا انياب ولا مخالب! كان لايزال في منتهى الإغتياض. يزفر نارا من جوفه الملتهب ويخطط للإتصال على مالك البناية ليسجل امتعاضه! هو من المؤمنين في تغيير المناكر تدريجيا من اليد الى اللسان انتهاءا بالقلب، لكنه نادرا ما يرسو على قلبه!

اتصل في "بوسعود" وسجّل موقفه، رد عليه الرجل انه لا يهتم بثقافة الساكنين ولا بتوجاتهم الفكرية! السمعة الطيبة واحترام البيت والجيران هو اقصى ما يهمة. قال له "بوسعود" أن واحدا من السكان المتحررين مازحه يوما عنّا، قال له بالحرف الواحد " الله يهداك بو سعود .. ليش مسكّن معانا ارهابيين!". امتقع وجه زوجي، ولكنه فهم انه ليس وحده الذي يملك الحق بوضع انطباعاته الأولية على الآخرين، الآخرون حتما علبّوه بعبوة ناسفة، ووصموا حميته المتأججة عن دينة ببطاقة تعريفية تحمل اسم " متطرف وارهابي"!

- هي امرأة مرموقة، زوجة تعيل زوجها المريض وترعاه، هي ام تبني في هذا البيت عشا لأبنائها. لم اجد منها شخصيا إلا رقي في التعامل واحترام شديد لتوجهات الآخرين وآرائهم. إذا وجدت منها أذى يمسّك شخصيا .. قل لي.
قال له بوسعود قبل أن يقفل زوجي سماعة الهاتف .. واختفى زوجي عنّي وهو يتهم كل من في البناية .. بالجهل والسطحية.

يتقلب على فراش الليل ويزفر، وكأن الجارة التي فوقنا تجثم كالكابوس المتواصل على صدره. امسح على رأسه، واربّت على كتفه واقول له إن كانت الساكنة الجديدة تؤرقه وتغض مضجعه لهذه الدرجة بوجودها المجرد، فما علينا إلا تغيير المكان، سنجد لنا شقة أخرى.

يعطيني ظهرة .. يزفر باستهزاء .. ويقول:

- هذا اضعف الإيمان .. وأنا لست بالمؤمن الضعيف!


***


لم أصدق عيني عندما وجدتها عند بابي .. بقميص ابيض لينين فضفاض مطرز بورود فضية وفراشات بنفسجية، وبنطلون جينز. ترتدي ابتسامة استثنائية وتدعوني الى فجان قهوة في بيتها. مثل كل النساء، هي الأخرى – على حد قولها – تحتاج وقت مستقطع للثرثرة وتقصي أخبار الناس! وجدتها فرصة ذهبية للتعرف عليها عن قرب، للوصول الى الجزء الحائد عن الفطرة السليمة من قلبها. علّني بكلمة أو بحرف او بتصرف عشوائي أغيّر فيها سبيلا عن الدين! ألم يعد الرسول عليه الصلاة والسلام جاره اليهودي الذي كان يلقي القمامة عند بيته كل يوم، عندما فقد رسولنا الكريم القمامة وعلم أن الجار اليهودي مريض عاده وواساه ودعى له بالشفاء رغما عن الإساءة، فأسلم اليهودي تأثرا بحسن تصرف المصطفى؟
لعلني بمثل قدوتي ورسولي الحبيب أعيدها الى الطريق الصويب.

لبست عبائتي، غطيت وجهي وتوجهت صعودا الى بيتها، وأنا على السلالم أفكر .. هل أقول له؟ أم اتركه سرّي الدعوي الصغير!

في بيتها، على اريكتها، ارتشف شايا اخضرا من ابريقها .. أخلع نقابي فترى وجهي للمرة الأولى وتبتسم بفرح:
- كم تبدين جميلة!

أشكرها، واسألها بتطفل واضح عن المرض العضال الذي اصاب زوجها، بيني وبين نفسي افكر .. ربما يكون هذا المدخل الصحيح لبوادر نصحي لها ..
تخبرني أنه سرطان في الرئة :
- زوجي كان مدخنا شرها في التسع سنين الأخيرة من حياته، لم يكن يتركها .. واحدة تسحب أختها. خفت كثيرا عليه، نصحته مرارا، أخذته الى دكاترة واطباء ليأخذ نصيحة علمية دقيقة عن مضار التدخين ولكن لا فائدة. يتأثر وقتيا بما يسمع ولكنه يعود بعد دقائق لصديقته الكريهة. الى أن حصل ما كنت خائفة منه!

زفرت بتأثر :
- ربما هو ابتلاء من رب العالمين لكم، لتعيدوا خطط حياتكم وترتبوا اوراقكم.

ضحكت وردّت ببساطة :
- أو ربما هي حقيقة علمية ثابته أن التدخين سبب رئيسي لأمراض السرطان والقلب والشرايين!

مع الحديث عرفت أنها انتقلت الى هذه البناية لإنها اقرب الى المستشفى التي يعالج فيها زوجها، وأنها على الرغم من هدوء الجيران في البيوت المحيطة، إلا أن عجلات سيارتها افرغت من الهواء مرتين! زجاج سيارتها تهشم. كما أنها وجدت رسالة تهديد من تحت الباب: "إن لم تغادر البناية .. ستنال جزاءها".

امتقع وجهي وسألتها إن كانت تخاف؟
- لا أخاف .. لإن قناعاتي بما علمت وتعلمت أكبر واعمق بكثير مما يتصوره الآخرون عنّي. الإيمان الراسخ بالشيئ عن علم ودلائل وبراهين يعطي طاقة وقوة للإنسان أن يسير قدما فيما يؤمن به. بعلمي لم اضر أحدا، لم اغتصب طفلا ولم آخذ لقمة من فم فقير. هي أفكار مثبته علميا وتاريخيا من حق كل البشر العلم بها، تصديقها او رميها مكومّة .. مكرمشة .. مهملة في سلة القمامة.

انقضت ساعة، فتحوّل حوار النوايا الى حوار امرأتين مختلفتين مجبولتين على التآلف لظروف خارجة عن السيطرة. هي وأنا، في دائرة دافئة من انوثة وامومة وتاريخ ومستقبل وطموح. بمنتصف الطريق قامت لتجلب لي كعكة البرتقال التي خبزتها بيديها .. استغربت أن امرأة بمكانتها العلمية، ونضالها المستميت للتحرر من القيود الأنثوية .. تخبز كعكا!

وهي في المطبخ يرن جرس منزلها .. تستسمحني أن افتح الباب لإبنتها التي يوصلها باص المدرسة كل يوم في هذه الساعة ! الف حجابي كما اتفق واضع طبقة رقيقة منه على وجهي .. وافتح الباب ..

كل ما رأيت رجل بدشداشة بيضاء .. يمسك دلوا ازرقا .. يمسكه بيديه المغطاه بقفازات صفراء فاقعة .. يلقي عليّ ما ان فتحت الباب ماءا اصفرا!

صفعتني الرائحة .. اتراجع للوراء .. اصرخ من الألم .. عيني تحترق، ورائحة القماش وهو يذوب مع جلد وجهي .. قطع من لحم صدري تقع على الأرض .. اراها بعيني. أجري كالمجنونة .. وسلمى بعينيها المرعوبتين تجري خلفي وفي صوتها دموع. استند على الحائط الملاصق للنافذة، من بين عويلي استرد بعضا من أنفاسي ..

أفتح عيني على الشمس القابعة خارج النافذة، لازالت تحرقني، ولكني المح الرجل .. يخرج من الباب مسرعا ويركب سيارة زرقاء .. تماما كسيارة زوجي .. يقفز الرجل .. وتنطلق السيارة!

القي بنفسي على الأرض .. احترق في ماء النار الذي نواه "قوي الإيمان" لها، وبينما سلمى تتصل بالإسعاف .. ارفع يدي .. وأشمها!

تعليقات

‏قال غير معرف…
http://khobzah.blogspot.com/
‏قال SHAHAD
أقف مذهولة !
حقا لا أملك تعليق !
أهكذا يؤخذ الدين !!
أهكذا تغيير المنكر باليد !
محد كسر خاطري غير زوجته :(
سبمبوت .. عشت الجو
رائعة في أفكار قصصك
‏قال Nikon 8
من حفر لأخيه وقع فيها
ما لها ذنب الزوجة فهي أرادت تغيير زوجها ولم تعرف أن التغيير سيكون عن طريق جسمها الذي حرقة تعصب زوجها الأعمى !
ليت الدرس صاير في أحد أولاده لأن هذا اللي راح يحره بقوة وليس الزوجة التي سيتبدلها بأربع !!!
الله يبعد عنا التعصب الأعمى
‏قال الست فرويد
يالله
اصبتنى قشعريرة من النهاية التى وجدتها تصفعنى فجاة وانا اقرا كلمات هادئة لا تنبا بفاجعة اتية

اجادتى ايصال الفكرة بكم وجع هائل لابد هيصيب كل من يقرا نهاية الزوجة الضحية

وعلى الرغم من رجفتى

اجزم انك رائعة بكل معنى الكلمة

دمت فى منتهى التالق
وبكل خير يارب
وانقلب السحر على الساحر

سبحان الله ماغالب احد الدين إلا غُلِب ... ذكرتيني بالحادثه الارهابيه التي حدثت منذ ايام قليله بالسعوديه .. مناظر بشعة قريبة مما حكيت توا

دمتِ سالمه يا أم غدن
‏قال ARTFUL
جميل


:)
‏قال 7osen…
قصة جميلة ومميزة

--
ذكرتيني بحلقات طاش ماطاش لما يقلدوون الاسلاميين المتشددين والله فكرة حلقة مميزة .... :) ..

يعطيج العافية
‏قال The.One
التميز بعينه ياسبمبوت :)
‏قال Shady…
واو!
اسلوبج حلو ويشوق ما شاء الله .
بس ليش متحاملة على الدينين ؟ .. يعني ليش ما اقرى لج قصة البطل فيها علماني مثلا أو ضد الدين وإنسان مو زين في نفس الوقت

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

امرأة تحب النساء !

" غدّونة" تذهب للمدرسة !

أنا عندي أرنبه ..