احتراز ..


لا اصدق أنها احتفظت بالصندوق الى اليوم!


في الخامسة عشر كنّا عندما اشترينا صندوقين توأمين من بازار شعبي في يوم البحّار. من الخشب صنع الصندوقين ونحتت عليها عبارات من الزمن الجميل. مقاطع من مطالع سامريات قديمة، أمثال عتيقة دارت عليها دفة الأيام الى ان انقرضت من رؤوس الأجيال التي أتت من بعد مفرق جدتي تحت لفّة رأسها الشاش، وجلابيب أمي الململ. أتذكر ان صندوقها نحت عليه " قومي ارقصيلي وارفعي البوشية"، وصندوقي نحت عليه " إن بغيت صاحبك دوم .. حاسبه كل يوم". تأملنا الصندوقين كثيرا أنا وهي .. تساءلنا وقتها أي نوع من الهلوسات كانت تعتري صانع الصناديق لينحت ما اتفق مع ذاكرته من عبارات ومقاطع عشوائية؟



بعد البازار وضعناهما على السرير وفكرنا ماذا نفعل بهما، اسميناهما " سقح" كانت كلمة سرّية اخترنا مبادئ حروفها لا يعرفها إلا انا وهي .. اعتقد الى الآن لم نفش سر الأحرف الغير منطقية. " (س) سر (ق) القلب (ح) الحزين" لا ادري ماذا الذي كان يحزن قلوبنا في ذلك العمر المُبكر؟ كنّا دراما كوينز! هذا بالضبط ما كنّاه، فتاتين تائهتين في فترة مراهقة مضنية، أحببنا بعضنا ودفنّا في بعضنا أسرار لا حصر لها! ثم كرهنا بعضنا و افشينا الأسرار على الملأ، نشرنا الغسيل فجف واهترأ. تصالحنا في النهاية وعدنا الى حضن الدنيا التي دائما ما طوقتنا بصداقة زاخرة.



أتذكر في نفس السنة التي اشترينا فيها صناديقنا، اغتظت منها لان ابن خالتنا الذي كنت "احبه" يعيرها اهتماما فائقا! يتحدث اليها باستمرار ولا يتوقف عن سؤالها عن المدرسة! كان يسألها دائما الى اي درس وصلت في المنهج ولا يسألني! على الرغم من أننا الثلاثة في ذات المرحلة الدراسية. لا اعرف لم كان يزعجني الأمر لدرجة أنني أطلقت إشاعة قاسية وقتها وأخبرت الجميع انني رأيتهما يقبلان بعضهما في غرفة الملحق المعزولة من بين جدتي. انتقلت الإشاعة كالعادة من عالمنا – نحن الصغار – الى عالم الكبار. علمت أمهاتنا وحاولن بهدوء نسبي ان يتحققوا من الأمر، وقبل ان يقفل ملف القضية علم والدها " المُلا" كما كنّا نسميه، اكاد اقسم وقتها أنني رأيت شظايا في الأفق، ضربها وحرمها من "الزوارة " العائلية لشهور طويلة، واعتقد انها من بعد تلك الحادثة .. أجبرت على ارتداء الحجاب!


لم اخطط وقتها لوأد الطفلة المتبقية داخلها، لم تكن تع انني خلف ما حدث، ولازلت استغرب بعض الأحيان عندما استرجع الحادثة، كيف لم تشر اصابع الإتهام نحوي عندما علكت العائلة الحادثة لشهور! كيف تسللتُ من قبضة الجرم الذي – باعتقادي الشخصي – غيّر مجرى حياة ابنة خالتي واعز صديقة عندي الى الأبد؟! بعد فترة عادت "لزوارة الأربعاء" كعادتها، وعدنا قريبتين من بعضنا، ولكننا – البنات – عُزلنا عن الأولاد الى الأبد.


أتذكر اليوم جيدا، كنت اقضي الليل في بيتها، في غرفتها، على سريرها قررنا ماذا نفعل بصندوقينا، خطرت لها فكرة .. وتوقف قلبي من جمالها واوريجناليتها. قررنا أن نكتب وقتها رسائل الى زوجينا المستقبليين، أن تضع كل واحدة في "سقح" الأخرى مواقف طريفة عن الأخرى. صفاتها الجميلة التي يجب ان يعتز بها فارس الأحلام ويعززها. ان تكتب كل واحدة عن الأخرى ماذا تحب فيها، كيف قضت طفولتها، وكيف كانت أيام مراهقة زوجته. في ذلك الصندوق تسكب كل واحدة فينا رحيق قلبها عن الأخرى، تضع لزوج الأخرى رسائل، ذكريات وصور كلها من اختيارها دون ان تعلم الأخرى اي شيء عنها. ستكون مفاجئة يوم "الملجة" تهديها كل واحدة فينا الى "عريس" الأخرى كهدية استغرقت سنوات من الحفظ والحب والسرية الفائقة.


قضيت الليلة التالية في غرفتي .. اكتب عنها سطورا من شعر ونور، أضع لعريسها الغامض خيوط شخصيتها الرائعة، واصف له التزامها وولائها وحبها الهادئ لكل من حولها. اخترت له الأجمل والأظرف من صورها التي كنت املك ألبوما كاملا منها. اعتقد أنني أحببت الفكرة لأنها كانت تذكرة الهروب من الذنب الذي اقترفته .. بوابة الخلاص.
كتبنا ما كتبنا .. ووضعنا ما وضعنا في الصناديق الخشبية العشوائية دون ان تعلم اي منّا ماذا كتبت الأخرى عنها، قفلناها بأقفال ثقيلة وصدئة والقينا المفاتيح الى قاع الأزرق في رحلة بحرية عائلية. اقترفنا الهدية، لا مجال للتغيير او الإعادة!


الليلة .. بعد إحدى عشر سنة، تقدمت بخطاها الواثقة الواسعة من عرشي، كنت أميرة متوجة عليه. جميلة ورائقة ارتدي فستانا ليلكيا طويلا، وامسك في يدي باقة ورد لطيفة، صنعتها أمي بيدها. الليلة أهدت أميري صندوقها الذي كتبت له رسائل عنّي منذ احد عشر سنة. أخذه منها وابتسم لها باستغراب .. قالت له انني سأشرح له لاحقا " ألف مبروك" . أومئ برأسه والتفت يستجديني اجابة، مسحت شهقة من فمي، وحنين من رمشي ووقفت أضمها وابكي.


في السيارة أخبرته عن قصة الصندوق .. اعتراه الذهول ولمحت في عينيه بريقا خالصا، كان لا يطيق الانتظار ، سألني كيف أفتحه؟ فأجبته اكسر رأسه وانهل كل أفكاره وصدِق كل ما تجده في قلب الصندوق، لأنها الوحيدة التي عرفتني جرداء عارية وقاحلة بلا رتوش ولا ألوان.


قال لي بعدها انه كسر رأس الصندوق في السيارة بعدما أوصلني قرب الفجر الى بيتي، قرأ الرسائل وسال حبر الصور ترياقا ساحرا لمقلتيه. ثم فتح الظرف الأخير، وقرأ الحقيقة وبكى. في الصباح اتصل بأبي وأخبره انه لا يستطيع ان يكون زوجي. طُلقت بعد يومين من "ملكتي"، كان نبيلا لدرجة انه لم يخبر احدا سبب الطلاق إلا انا ..


عادت الكذبة القاسية إليّ .. إشاعة انتقام متقنة وقاتلة غيرت هي الأخرى مجرى حياتي ..
لم أواجهها يوما حتى عندما نتقابل صدفة في تجمعاتنا العائلية المضمحلة .. ولم اسألها لمَ .. كنت بغرابة الذنب القديم صامتة وراضية، ولكني عرفت وقتها .. لمَ احتفظت بالصندوق كل هذه السنين!


تعليقات

‏قال ~هند~…
أنا ألبي كان حاسس..
‏قال بدون تعليق
حلوة ردت الصاع صاعين :)
‏قال غير معرف…
الصراحة ما عندي كلمات تعبر لكن باختصار القصة على بساطتها رائعة و الأسلوب جدا جميل و مشوق

تسلم الأيادي

:)
‏قال الزين
:@

لي عودة

القصه يبي لها الواحد يسرح شويه

صباح الخير
:*
‏قال غير معرف…
الثانيه حقوده لأبعد الحدود والاولى على نياتها حتى لو غلطت بس غلطت بزمن غير كانو مراهقين صغاار اطفااال .. حرااااااام اللي سوته ..اشلون قدرت تكون خبيثه جذي تخش بقلبها طول هالسنين اشلووون.. الاولى غير مسار حياتها بس بشكل عادي حجاب ومنع اختلاط بس الثانيه طلاق وقتل احلااام وقتل فرح عروس بيلة مولده
انا حزينه :(
‏قال ARTFUL
ول ول ول ول ول ول ول ول

11 سنه تحفر

اعوذ بالله ،، والله كلمة كيدهن عظيم شوييييييييييييييه!!!

تصدقين عاد لو انا مكان الشخصيه التي طلقت ماراح اسلم الصندوق الا عقب تفتيشه

D;
‏قال غير معرف…
11 سنه ومابرد طراق ابوها؟؟

11 سنة واهي شايلة بقلبها أخطءمراهقة وطفولة..
صراحة ..أجد البنت الثانيه غايه بالخبث واللئامة

ورغم خطأ الأولى....بس الثانيه شي !

انقهرت...وانقهرت زيادة انه الاولى سكتت!!!!




سبمبوت...

شفتي الإنفعال اللي فوق:)

ما يخلقه إلا قلم قوي!! وأفكار اقوى...

وانتِ دايماً جذي...


ربي يحفظج والأميرتين

حبي:*
‏قال chandal/danchal!!
ولو اني ما فهمت مضمون اللي قراه وخلاه يطلقها


بس كل وحدة تقول الزود عندي بالجقالة

امحق صداقة وقرابة
‏قال الزين
الغيرة سبايب
وكانت الشرارة اللي اشعلت ما كان يعتمل بنفس الصديقه كل هالسنين

بطلة القصه تسلطت عليها غيرتها وتقولت على صديقة عمرها وابنة خالتها
مما كان له اثر وعواقب مؤلمه على حياتها
وانحطت لها حدود وخطوط حمره قللت من حريتها وتركت جرح غائر ما برى
والدليل على هالشي نوت الإنتقام
ونفسها كان طوييييل
وثأرت للي صار لها
بطريقه خبيثه
بس انا برايي على قد الأذيه والجرح والألم
تكون ردة الفعل

انا ما اعذرها
بس ما الومها

الشغلة الثانية
الزوج المبجل
!!
شنو قرى بالضبط اللي يخليه يطلق
ليش الزواج عندنا لعبة والطلاق سهل
بس قريت لك كلمتين سيده طلقت
وين الحكمة والتعقل بالموضوع
!!

سبحان الله
النفوس البشريه غريبه

اما عن السرد يا سبمبوت
كان اكثر من رائع
تدرين جم مره قريت القصه

:))

ما تعديش
‏قال 7osen
جميلة جدا

ماكنت متوقع النهاية


الإنسان كائن مدمر بالدرجة الأولى


يعطيج العافية
‏قال غير معرف…
دائما تهتمين بالحالات الإنسانية كفعل وردة فعل
‏قال sab7al5air
جميله القصه نهايه مفجعه بس عجبني اسلوك ياسبمبوت
تحياتي استمري

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

امرأة تحب النساء !

" غدّونة" تذهب للمدرسة !

أنا عندي أرنبه ..