احتباس لغوي ..






بعينين مفتوحتين وضحكة متأهبة اسمعه يقول: " علامة استفهام صارت تعجب، ليش؟" لوحده يكمل : " راحت الصالون قالت لهم تبي " بف " سوولها "فير"! يضحك فأعرف ان النكتة انتهت وهو الوقت المناسب لأطلق سراح ضحكتي.
" حرف العين مبلل، ليش؟ حاطين له قطرة! "
" كل إللي يوقفون ورا " على" اركبهم مزلقة، ليش؟ مجرورين"!
" حرف القاف منخش في كلينيكس، ليش؟ حطّو قبله نون !




كان أبي واحد من هؤلاء الذين اذا وقعوا في حب اي شيء، اتخذوه شأنهم، شغلهم الشاغل. اكلوه في وجباتهم اليومية، وضعوه في باقة زهورهم وصاغوا حوله نكاتهم. كان ابي معلم لغة عربية، وأنا كنت في الرابعة عندما كان يدخل المنزل بعد يوم شاق، ليجلس معي على طاولة الطعام ويخبرني آخر نكته! لم اكن افهم كلمة، ولم استوعب حينها المعنى ولا اين تكمن المفارقة المضحكة. ولكني من نغمة النكتة، بعد الكلمة الاحتفالية التي تأتي بعد ليش، كنت اعلم انني يجب ان اضحك.




كبرت، لأقتنع ان لسان ابي مختلف عن الآخرين، قالت لي زميلتي يوما ا ن ابي يتكلم كمسلسلات الكارتون. كانت قد سمعته عند باب المدرسة قبل ان يتركني ليومي الدراسي، يخبرني " أُحبكِ" بكل الحركات، الضمات والكسرات وحرف الكاف بدلا من الحرف الذي كان يستخدم بالمنطوق العامّي.
يبدأ ابي يوما حديثه مع صديق على الهاتف بينما انا اسمع:
اعتباطا .. توجهت للجمعية قبل المسجد ففاتني صلاة الجمعة ! يقول ابي جملته بصيغة عاميّة بحتة، لكن اختيار الكلمات هو الذي يجعل اذن المستمع بحيرة احيانا، استغراب او انبهار احيانا اخرى! ربما كان ابي الوحيد في هذه الدنيا الذي يستخدم كلمة " اعتباطا" بجدية متناهية.

سألني يوما بينما كنت اهم بالخروج : " ألا تلميني؟" توجهت نحوه وضممته الى صدري، خضبت ثوبي الجديد برائحة العود الأصيلة وذهبت لإحتفال عيد ميلاد احد اقاربي. عندها قال لي ابن خالتي الذي يكبرني بسنة، أن رائحتي تشبه رائحة الرجال الذين يذهبون للمسجد. لم اغضب، لإنني كنت اعلم ان رائحتهم زكية.

يصحح لي والدي اقوالي باستمرار، يساعدني على ترتيب الجمل داخل رأسي قبل ان اتفوه بها، يغضب عندما استخدم واحدة من كلمات جيلي التي – على حد قوله – تكتئب منها اللغة العربية، عندما سمعني يوما اقول " يوم أنه .." قال لي ان اللغة العربية للتو القت نفسها انتحارا من قمة "الألف" في "أنه"! ضحكت وقتها بخجل، فبعد العشرة الطويلة لم اعد استطيع الإستهزاء باهتمامات والدي. قبلها كنّا قد اتفقنا ان يحترم كل واحد منّا أحباب الآخر!

عرفت يوما، من قصاصات ماضي والدي مكتوبة في مذكرة سوداء جلدية انه كان يحب بنتا اسمها "اسمهان"، كانت فلسطينية جميلة تعيش في شقة مقابلة للمدرسة التي كان يرتادها. عشقها والدي في ايام مراهقته، حاول الوصول اليها بشتى الطرق. اشترى لها هدايا وارسل لها ورود، ولكنها لم تستجب إلا عندما سرق شطر قصيدة من كتاب مهمل لعمر ابن ابي ربيعة. حادثته اسمهان يومها، كتب:
" كان الجو اشبه بتنور مخبزنا الإيراني، عرقي يتصبب كزاهر الخباز، وهي كانت متوردة وشهية كواحدة من تلك الخبزات التي التهمها كل يوم في طريق العودة من المدرسة الى البيت"!


ضحكت يومها الى ان انزلقت على الأرض، كم هو بسيط ولذيذ والدي، ربما هو العاشق الوحيد ايضا الذي شبه حبيبته بخبزة ايرانية. ولكن "لكل زمان كناياته"، هذا ما كان يقوله عندما اخبره بخبر عصري لا يتوافق مع ذائقته الكلاسيكية.


اشعر بوخز في قلبي وأنا اقترب من غرفته، يجلس على مكتبه عادة يقرأ او يكتب. لا يحب ان اقاطع حواراته الرائقة مع الكتب ولكن شيئا داخلي بات يستوجب الإنفلات. امسك قلبي بيدي، واراجع مع نفسي ترتيب الأفكار التي سألقيها على طاولته. أخبرني كثيرا ان صدره مفتوح لأي "إقتراحات حب"! هكذا كان يشعرني انه مستعد لسماع بشائر نبض قلبي. كان يخبرني انهم اذا خيروه بين علبة رخامية، محشوة بمخمل زاخر تتربع بقلبها اكبر ماسة في العالم، وبين قلبي .. سيختار قلبي بلا تفكير. كان والدي يحبني برعونة لهذا هو متأهب للدخول الى دهاليزي المعتمة التي من الممكن ان تشكل اقوى صدمة ارتعاب من الممكن ان يتصورها أب. والدي كان شجاع وعاشق بما فيه الكفاية لينصت.


اطرق طرقات متوارية على بابه الخشبي، ينظر لي من تحت نظارته التي تدلت بسبب الجاذبية الارضية على ارنبة انفه. يبتسم ويسألني بشقاوة :
" خير"؟
اتقدم خطوة، وارجع اخرى .. اتنهد، احتار، افتح فمي ثم اغلقه. انظر اليه واقول له : " لا بس ماكو شيئ". اهم بالخروج فيناديني:

" مكانك"

اقف، استدير واتقدم باندثار. يضع كتابه، ويقلع نظارته، يضعها فوق الكتاب. يجرني ويجلسني في حضنه، تماما مثلما كنت في الرابعة.
اتنفس واتحدث:
هل تذكر " كيلان " الذي حدثتك عنه؟
يسألني: " الألماني؟"
أخبره : هو ..

يصمت وينتظر. ابي مولع بلعبة الصبر والإنتظار، يحاول ان يدفع نفسه لحافة الإنهيار احيانا وهو ينتظر. يقول هكذا هو يدرب عضلات اصطباره

.
يعم الصمت بيننا، اسمع دقات قلبه، ويسمع دوي قلبي .. اتفوه بما تيسر لي:
" كيلان يريد ان يتقدم لخطبتي"


يصمت والدي كما لم يصمت من قبل، تختلط طبولي وطبوله واسمع داخل رأسي نغم لحفلة حداد افريقية. ينزلني من حضنه، ويأمرني ان اعود لغرفتي.


ارجع، واتصل " بكيلان" اخبره ما حدث. تعرفنا أنا وكيلان في واحد من معاهد الدورات الخاصة. كنت اريد ان اتعلم الإنجليزية وهو كذلك بعدما قدم للبلاد للعمل في شركة المانية معروفة. كان يريد ان يتعلم العربية، ولكن بعد أول اسبوع آثر الإنجليزية. قال لي ان العربية Zu Hart! بالألمانية تعني "قاسية جدا".


يمر اليوم الأول، فالثاني، الاسبوع الأول فالثاني وأبي يحدثني بمنتهى الطبيعية، وكأنه لم يسمع تصريحا قلب كيان وثيقة المصارحة المبرمة بيننا. هو، تسامى على الأمر بالهرب من المواجهة، وأنا كنت في اتم الإستعاد لخوض حرب.
مر شهر، والموضوع محشور في مغلف مغلق مهمل على مكتب والدي، ربما وضعه بين صفحات كتاب يعلم مسبقا انه لن يقرأه من جديد. " كيلان" وانا قررنا ان ننبش المارد من جديد. اقترح ان يأتي لمقابلته فرفضت. قلت له دعني احاول الليلة مرة اخيرة وإن لم يكن فسنقابله سويا.


اعود الى البيت واضع قلبي على ورقة مطوية مددتها على وسادته..

في الصباح، طرق باب غرفتي .. قبلني على رأسي، واخبرني ان ادعو "كيلان" اليوم على الغداء!


كنت قد كتبت في الورقة: " كان الجو اشبه بتنور مخبزنا الإيراني، عرقي يتصبب كزاهر الخباز، وهي كانت متوردة وشهية كواحدة من تلك الخبزات التي التهمها كل يوم في طريق العودة من المدرسة الى البيت"!


تعليقات

‏قال Bella
كنت اريد ان اعرف معنى اسم مدونتك اذا تكرمت

تحياتي
‏قال Bella
ماهذه الرقة والعذوبة

سعيدة بالصدفة التي ساقتني لمدونتك الجميلة

اسعدتني هذه التدوينة كثيرا واعجبتني تلك العلاقة الجميلة بين الاب وابنته

سأتجول في مدونتك على راحتي

تحياتي
‏قال chandal/danchal!!
zu amazing

loved za ztory... esp. the zu hart part
‏قال Nikon 8
هذا الحب وإلا بلاش
:)
جمعة مباركة
‏قال سلة ميوّة
:)


عاطفيه أنا...

دمعت عيناي في نهاية القصّة...

كعادتك...رائعه


حبي
‏قال غير معرف…
Amazing as ALWAYS

- Eman
‏قال سبمبوت
عزيزتي بيلا

كنت اكتب في صحيفة يومية اسمها أوان، عامودي ان اسمه " سبمبوت" لإنه ينشر في يوم كل سبت على الصفحة الأخيرة.

عرفوني الناس بسبمبوت، وقرأوني في الصحيفة على اني سبمبوت، لهذا جاء اسم مدونتي على عامودي.

الكلمة مستمدة من اغنية تراثية اسمها " السبت سبمبوت" كنا ونحن صغار نلعب ونغنيها.
‏قال alala
سبمبوت بعد غياااااب ... اشتقت اليك :)

عسى المانع كان خيـــر يارب

عودة رائعة :)
‏قال ڹبض ٱڵحرۆڣ
من أجمل وأنقى المشاعر هي تلك التي تجمع البنت بوالدها والجميع يعرف بأن البنت " دلوعة أبوها " وتبقى مهماكبرت بنته الصغيرة..
قصة في منتهى الروعه لك أسلوب رائع

لك مني أرق التحايا

زيارتك لمدونتي ستفرحني فلاتترددي ..

نبض الحروف
\
\
كانت هنآ ..
‏قال Bella
اشكرك ياعزيزتي على التوضيح لاني لم اكن اعرف معنى الكلمة

ومدونتك كنز يستحق الاكتشاف

تحياتي
‏قال ARTFUL
عجيييييييييب

وابوج اعجب


:)


انتي بجر ابوج؟
‏قال ~ هند ~
من يوم الجمعه اللي قريت فيه البوست - اليوم اللي نزلتي فيه القصه وأنا بداخلي تعليق بس كسلانه ..

من الأسطر الأولى حطيت ف بالي انه والدج .. لأنه يشبه سبمبوت أو اهي تشبهه..
خاصة كلمة "اعتباطاً"
..
وتدور الأسئلة فـ بالي ..
أتذكر البوست اللي كتبتيه انه الوالد دارس برا ..
بس قلت جايز .. مدرس لغة عربية !!

وحطيت فـ بالي انها "قطعة من نفسي" فـ ما في داعي اني أنزل لآخر البوست علشان أتأكد ..!!!!

ألماني ؟!!!

ولما أوصل للأخير ..
التصنيف "قصة"

!!!!!!
وكل علامات التعجب فوق راسي


بعدين قعدت أدور كلمة يتبع ..
صج دايخه :q
ومو مستوعبة انها القصة خلصت :(

القصة وااو ..
وخاصة أسلوب انج تعيدين الجملة مرتين في القصة بطريقة حلوة ومشوقة..
تدرين إني أحب هالأسلوب صح :)


>> حتى آرتفل نفس حالتي .. صدّق انج انتي بطلة القصة

سبمبوت انتي خيااااااااال :*

وأنا قرقت وايد :$
‏قال سبمبوت
العزيز آرتفل

أنا بجر ابوي فعلا .. بس هذا مو ابوي :)





هند

أحب لما تقرقين .. إتس ابسوليتلي أدورابل
‏قال غير معرف…
write smthng new..
i miss ur stories :)

- Eman

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

امرأة تحب النساء !

" غدّونة" تذهب للمدرسة !

أنا عندي أرنبه ..