نتلاشى للأمام .. (16)



يعتنق عبدالوهاب ديانة الحب، رومانسي تعمه فوضى اليأس، تزعزعه نبرة دلع وتكبسه كلمة "أحبك".

وسمية مسبقا تعرف كل هذا فسبقته دائما بخطوة. بدا الثنائي الجديد الذي كنت أعرف أطرافه مسبقا غاية في الألق! على الرغم من سنّي، عرفت بفطرة السعادة أن وسمية وعبدوالوهاب متوافقان الى ما لا نهاية. عندما يتحدثان يكمل أحدهم حديث الآخر، وعندما يصمتان لا تتوقف عينيهما عن الحوار. كانا مليئين ببعضهما يرتشفان شهد العلاقة الجديدة التي فاتت، دارت من جديد وعادت لتتوج مسيرتيهما العاطفية المتلاطمة الأمواج بنقطة نهاية سعيدة ومرسى ينعم بالهدوء. ذهبت وسمية الى شقة عرسها، استأجرها عبدالوهاب على شارع الخليج العربي الشهير، في حضن الشعب البحري تطل الشقة على البحر بامتداده الأزرق وأفقه الجميل.


قالت لي وسمية يوما أنها لن تنسى تلك الشقة الفارهة ما عاشت، حيث كانت اللحظات بيضاء والذكريات رائقة وشفافة. وعلى الرغم من أن وسمية مرة أخرى لم تعد جارة طفولتي، إلا أنني لم أشعر يوما طوال فترة زواجها من عبدالوهاب أنها بعيدة عنّي! كانت دائما على بعد خط الهاتف عندما ارفعه عليها لأقول أنني اشتقتها، كان في نفس اليوم يأخذني عبدالوهاب لها.


في شقتها المنمنمة كل شيء صغير، حتى الثلاجة التي ركنت في زاوية المطبخ كانت صغيرة، الحمامات نظيفة ولامعة وغرفة النوم بلون اللافندر. بدت وسمية مرتاحة في بيتها، بمعية الرجل الذي يبدو أنه نجح في مساعدتها على دمل الجرح ونسيان الماضي.
بعد السنة الرابعة من زواج استوطنه الحب وغرست فيه رايات التفاهم اكتشفت وسمية أنها لن تنجب لحبيبها طفلا. عرفت في تلك الفترة بعد أن كبرت قليلا لأفهم شرح والدتي أن وسمية تعرضت لحادث بدا بسيطا وقتها عندما كانت صغيرة على صهوة دراجتها الحديدية. قيل لي أنها ارتطمت بالجدار بقوة وسقت على الأرض تبكي، اعتقد أنها كانت في الرابعة او الخامسة. أخذها والدها الى المشفى فنظفوا الجروح ولفوها ولم يطلع الطبيب المعالج على موقع الألم الذي كانت تشير إليه، كانت وسمية تتألم من منطقة ما أسفل بطنها. دارت إشاعة في تلك الأثناء ولا أعلم ما مدى صحتها لإن وسمية بطبيعة الحال لا تتذكر، تقول الإشاعة أنها عندما عادت من المشفى كانت تنزف قليلا من فرجها، اعتقدت جدتي أنه جرح من عرض الجروح. الى اليوم لا تتذكر جدتي إن كانت الإشاعة واقعية، فعند الإستعلام منها تقول ان جروحها كانت كثيرة والدماء كانت متناثرة على أجزاء متفرقة من فستانها.
- انتِ ما تبين بيبي؟
- أبي نورة .. أبي بيبي حلوة مثلج ..
- عشان تعلب معاي؟
- وتلعبين معاها ..
- بس أمي قالت لي أن عيالج كلهم في الجنة، ينطرونج هناك عشان تصيرين أمهم.


أتذكر جيدا ردة فعل وسمية عندما قلت لها الجملة الأخيرة، اغرورقت عيناها باللؤلؤ أغمضتهم فذابت الدموع سيلا ضئيلا على خديها، ابتمست شبه ابتسامة، حزينة كانت وخصوصا بعد عودتها من رحلة علاج في بريطانيا مع عبدالوهاب. ضمتي يومها، أذكر انها قالت لي ..
- أنا عندي بيبي .. انتي بنتي ..
لم أتحدث في الموضوع بعد ذلك اليوم، بمعرفتي الحميمة فيها، بقربي منها ومن فيض الحب الذي كنت ولازلت أحمله لها قررت بيني وبين نفسي أن أكون فعلا بنتها.


عبدالوهاب لم يعر الموضوع اهتماما واضحا على الرغم من حبه الجامح للأطفال، عبدالوهاب واحد من هؤلاء الرجال الذين يجب ان يشاكلوا الأطفال الغرباء في كل مكان. لابد أن يخرج لسانه ليناكفهم، لابد ان يبتسم لهم ولابد أن يلوح لطفل فضولي في سيارة واقفة بجانب سيارته وداعا صادقا. أحبت وسمية زوجها أكثر، كانت تتمتع بتلك الرجولة الطاغية التي لا تهزها زلازل الظروف ولا تحرقها براكين الحرمان. لم يفتح خالي فمه يوما للحديث عن الموضوع مع والدتي، لم يدافع عن نفسه وعن فحولته في بداية بوادر تأخر الحمل عن وسمية، ولم يجد ضرورة أبدا لإعادة تدوير الأمل. كان واحد من هؤلاء الرجال الصادقين مع أنفسهم، القانعين بقدرهم، المكتفين بنعمة دون اخرى. كان دائما يقول " الزواج قسمة ونصيب والأطفال قسمة ونصيب" محظوظ جدا من يوفق في الإثنين، ومحظوظ ايضا من يوفق في احدهم".
يرددها ويصدق كل كلمة فيها ..



0000



يرن هاتفي بلا توقف، أعلم أنه "عمر" ولا أرد. لا احمل نفسي عناء النظر في الشاشة الوامضة صهيلا ضوئيا يشق ظلمة الليل. عندما يعود داوود من غيابه المستمر تنام عمتي في غرفتي، وعندما يغيب او "يغور" كما كانت تقول تنام بغرفتها لتمنحني وقتا لنفسي، شيئا من الخصوصية. أي خصوصية تلك التي احتاجها وأنا دوما وحيدة إلا من دوار؟


منذ ذلك اليوم الذي قابلت فيه صراخ آسيا وصمت عمر وهو يرسل لي رسائل بلا هوادة، يخبرني أنه يحبني، أنه يريد مساعدتي، سوف يقف بجانبي. كتب لي في أحد الرسائل المهملة في سلة الوارد عندي:


" إذا تبين تنزلين الطفل راح أسافر معاك وأدفع كل التكاليف..

وإذا تبين نتزوج أنا مستعد نسافر ونتزوج بلا أهلك وبلا أهلي".


أقرأ الرسالة وأشعر بتبلد غريب في أوصالي. لا أشعر بدفء الكلمات ولا حرارة المشاعر. أشعر بالكسل! أتكاسل تحليل الرسائل مثلما كنت أفعل، تفكيكها الى قطعها المبدئية وكلماتها المصدر. لا تحتاج مني هذه الرسالة اي تحليل. عمر يقف في مكانه ويترك لي الكرة بملعبي. يعطيني كما دوما يفعل خيارات أغرق بها ولا ينتشلني من هم الحيرة الذي أنا فيه.


من أنا لكي أقرر بعد كل الذي فعلت؟ كانت قراراتي السابقة بمنتهى الغباء، غبائي هو ما أوصلني لهذا النفق المظلم بلا ضوء الخلاص، أزم عيني وأقطب جبيني وأحاول ان أرى النور في نهاية المشوار، لا أرى الا سواد العار وعذابات الجريمة. من هذا المفترق لا خيارات لدي، أنا موعودة بالموت أيا كان شكله وكيفما كانت رائحته. أقف على قدماي وأتقدم بتردد نحو المرآة الكبيرة التي تعتلي صدر طاولة خشبية رصت عليها قوارير مزركشة، انظر الى وجهي فلا أرى إلا الهالات السوداء وعينين حمراوين، لم أكن أعلم انني كنت أبكي! أنا بكيت حتى فقدت إحساسي في بفعل البكاء، إن كانت عيني تعتصران دمعا أم لا، ما من فارق.


على أطراف المرآة رصت صور صغيرة، كتلك التي في بطاقاتنا المدنية وجوازات سفرنا. تدخل وسمية زاوية الصورة في طرف مرآتها فتعلقها في الإطار. واحدة لوسمية وهي صغيرة، لداوود بالأبيض والأسود فتيا في زي الكشافة، لابن أخت داوود طفلا نابضا بالحياة، لطفلة صديقة وسمية التي توفاها الله إثر مرض ما. تتدلى من المرآة صور العديد من الأطفال التي حرمت منهم وسمية . وهناك أيضا في الزاوية الأخرى صورتي وأنا رضيعة، كانت تلك الصورة الوحيدة التي كتبت خلفها وسمية بخط يد دلّ على صغر سن صاحبته، معوج خطها لم تتقنه بعد: " نوره أحلى بنية العالم".


أقرأ السطر اليتيم وامتقع، أسقط في بئر عميق سقوطا أبديا. كلما هويت أكثر، كلما زاد شعوري بحزن يكاد يخنقني. هكذا وأنا أرى انعكاس خيالي على المرآة .. أرى فجأة وجه طفلتي. تلك التي تشاركني الآن جسدي، هي ذاتها التي يريدون مني قتلها. هكذا وأنا هناك في بقعة عميقة من حزن يقطه أوصالي، عرفت يقينا أن ما في داخلي بنتا.


من موقفي القاسي أبكي، من مذبح روحي أنتحب ..

هذه المرة كان بكاء مختلفا لدرجة أنني أحسست بحرقته. هذه المرة أنا لا أبكي نفسي، مصيري او مستقبلي .. هذه المرة أنا أبكي طفلتي.


أسقط على الأرض وأجلس في دائرة غامضة، درجة جديدة من الجزع، ربما كان تلك النقطة الفاصلة بين العقل والجنون، بين البقاء والرغبة الصادقة بالرحيل. فكرت وأنا في دائرتي أنني لكي احمي طفلتي يجب أن أقتل نفسي، هذه الوسيلة الوحيدة التي لن اضطر فيها لقتل جنيني بيدي، أموت أنا ولا أقتل روحا بريئة، حتى ولو ماتت بموتي!


تنتقل غشاوة عيناي من اللاشيء الى رسغي، أتحسس النبض النافر وأتخيل مقدار الألم الذي سأشعر به إن غرست موسا وشطفت خطا قاتلا في يدي. ارفع رأسي للسقف، أبحث عن شيء أعلق فيه حبلا يقتلع روحي، يخيفني المنظر، أجزع! أغمض عيني وابتسم، أتذكر خزانة الأدوية التي تحتفظ بها وسمية في حمام غرفتها، استرجع كمية قوارير المرصوصة ببطن الخزانة، أعلم أنني سأجد منها واحدة تنهي تواتر الحزن الذي بات يلوّن عمري. إن مت لن اضطر لقتل طفلتي، سنموت معا، لن يحزن أحدنا على الآخر ولن يلومني كل الوقت الذي سأعيشه بعدها، لن يناديني ضميري بالقاتلة ولن اضطر لدفن سر بهذه العفونة في بؤرة ما في دهاليز مستقبلي. أتنفس، لأول مرة أسحب من السقف هواءا كثيرا يملئ صدري وعلى الرغم من كل ألم الفكرة وشذوذها إلا أنني شعرت بأنني أخيرا وصلت لمحطتي، سأترجل من القطار وأرحل الى الأبد.


أرفع نفسي من الأرض، أهم بسحب خطواتي فحيحا هادئا الى غرفة وسمية ومن ثم حمامها، أفكر بيني وبين نفسي أنني يجب ان لا أنتظر الصباح، ربما لإني أحب الشمس، وأحب عينا وسمية وربما لإنني لن اقوى على تنفيذ جريمتي في حضرتهما. أتحسس طريقي في الظلام غشاوة الدموع على عيني لا تساعدني كثيرا على الوصول الى باب غرفتي. أخطو ببطئ، أرفع رأسي وأقف فجأة عندما تلمح عيني كيانا واقفا عند بابي، تلمع عينا وسمية في الظلام. التفت لساعة المنبه الإلكترونية على الطاولة التي بجانب برأسي، يشير الوقت الى الساعة الثالثة فجرا، أعود برأسي الى المكان الذي تقف فيه عمتي وقبل أن أفتح فمي لأسألها ..
- لبسي شي دافي وتعالي معاي ..
بدون سؤال ولا انتظار لأي تبريرات، اضع على جسدي جاكيت طويل من الصوف وأتبعها الى سيارتها.



يتبع ...

تعليقات

‏قال chandal/danchal!!
اف قلبي بربعة! خرعتني وسمية!

هالبارت وايد متأثر بهالوين الله يهداج سبمبوت!

المفروض اليوم جزئين!
‏قال ARTFUL
مستنييين

صباح الخير

:)
‏قال غير معرف…
طولتي علينا هالمرة :) ننتظر بشوق
‏قال chــاي أخضر
مافي تكملة :؟
‏قال سبمبوت
شاي اخضر

في عزيزتي بالطبع فيه ولكني في اجازة خارج الكويت سأكمل القصة ما ان اعود.

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

امرأة تحب النساء !

أنا عندي أرنبه ..

" غدّونة" تذهب للمدرسة !