( سلمـــــــــــــــــــــانة ) 1




لغتها العربية و قطع أحجار من كل شاطئ زارته وحجاب على الرأس، ثلاثة أشياء فقط جاءت بها من هناك. هي تركت هذه الأرض لأصحابها و ذهبت الى حيث لا يذهبون، كانت لا تريدهم و لا تريد ان ترى صبغة الشمس التي تترك لونا فريدا على الوجوه. تركت الجميع وتحدّت اللاآت التي سمعت والتهديدات التي ألقيت كالقمامة على رأسها، الصراخ الذي طال أعمق نقطة في قلبها. ذلك الصراخ الذي عاشت معه منذ كانت صغيرة، الصراخ الذي يصم آذانها ويرعبها حتى لو لم تكن هي المخطئة. العينان السوداويين التي يمتزج بهم الزئير فيغدوان بلون الدم. كانت تخاف منهم و لا تنساهم.

غريب أن يغادر الإنسان وطنه و لا تلعب أغنية ما – حزينة كانت أم سعيدة – فيما وراء عقله. هي رحلت بلا أغنية وتبدلت الحان الفراق بغضب صاخب، ولا أيادٍ تلوح عطفا للوداع. لغتها العربية والصبغة السمراء والعينين العسليتين وحجاب ملون على رأسها جاءت بهم من الغربة البعيدة .. و الباقي لا يهم.

في المطار، ذلك الحضن الكبير جلست على المقاعد البلاستيكية المتلاصقة. هي تحب المطارات، فهي بداية كل أمل وخاتمة كل غربة او ربما لا تكون!  تحب المطارات لأنها تضم اكبر لحظات التلاقي، فبعد الفراق عادة ما تنسى الفوارق والخلافات لينتظر كل من الطرفين مرأى الطرف الآخر بقلب نابض فتلتقي العيون وتتلاصق القلوب بلا حواجز وينسى الماضي للحظة.

 صوت المنادي يعج المكان، واللغة المحببة تدغدغ أذنيها فتطرب لوقع الكلمات، ترهف إذنيها و تسمع .

***


(والله تعبنا .. و استحملنا و درسنا، كانت الأيام صعبة والدراسة أصعب بس الفرح كان دايما في قلوبنا، وسعادتنا بإنجاز شي احنا حبيناه خلانا ننسى كل المصاعب و دفعنا  نتطلع للمستقل.)
عجّت القاعة بالتصفيق والدموع ، بدا التأثر على الكثير من الوجوه. كانت كلمة هديل تقليدية،  لكنها عندما وصلت لهذا المقطع، تجاهلت الأساتذة والمدراء والإدارة والتفتت الى زميلاتها وزملائها الطلبة الخريجين. ابتسمت لهم ووجهت لهم الحديث. كانت هديل وسلمانة صديقتان مقربتان، والدراسة كانت واحدة. درستا في تخصص واحد وأحبتاه لما فيه من حيوية و إبداع. هديل واحدة من الطلبة المتميزين في قسم الإعلام، كانت نتائجها الأفضل على مر السنين. عندما طلب الدكتور سامح من هديل ان تلقي كلمة الخريجين في الحفل الخاص لتخريج طلبة القسم دفعة 2001 – 2002 ترددت ولكنها قبلت في النهاية لانها دائما كان لديها ما تقول.
منذ أيام الدراسة كانت سلمانة تعلم ان رأسها يعج بالمعارك، مثل العديد من المبتدئين بالحياة كانت لا تزال تبحث عن شي ما، تبحث بعيدا عنها، قريبا منها، وتبحث في جوفها. كانت تبحث عن شيء يوقف هوس التساؤل ووسواس الضياع داخلها.
 هل نحن ضائعون؟ ام أن ضياعنا وجود؟ هل نحن دوما حائرون على مفترق طرق الحياة؟ أم أن طرقنا موصوفة ولكننا نحن من لا يعلم كيف نجد الطريق؟  لم تكن تعلم من فعلا يستحق الرضا، هي ام هم ؟ ومن حقا يستحق السعادة!  كانت صغيرة وطريّة على مشارف الخوض في تجربة الحياة.
أحبّت سلمانة الحياة مذ كانت صغيرة وظلّت تحبها الى ان تاهت في حبها فضاعت عن الأبواب ووجدت آلاف النوافذ.
 
-        اعجبتج الكلمة ؟
-        هديل !! شرايج يعني ؟ ما شفتيني أمسح دموعي ؟
-        امبلى .. بس عادي انت معروفة .. ممكن كنت قاعد تبكين على شيء ثاني ماله أي علاقة بالتخرج ولا بالكلمة.
تضحك سلمانة عاليا:  لا والله كانت الكلمة، والناس والتخرج والفراق، ماني قادرة اصدق ن ايام دراستنا انتهت!
تقاطعها هديل : زعلانة من أمك ؟؟
-        أمي اختارت ..
-        و انت اخترتِ انك ما تحاولين تغيرين اختيارها!
-        ليش أحاول ؟؟ هي تدري ان هذا اليوم من أهم الأيام في حياتي، زعلانة منّي !! لازم تتغاضى شوية وتحضر حفل التخرج، لا تكلمني .. لا تهنيني .. بس عالأقل تحضر حفل التخرج تشوفني وأنا استلم شهادتي!! بعض المرّات أحس أمهاتنا ما يحسون فينا.
-        صدقيني يحسوّن ، بس عزتهم بنفسهم تخليهم يكابرون.
تقطع جنان الحوار القائم وتنادي المصور الى حيث تقف هديل وسلمانة، تقف في وسط الاثنتين، تنظر الفتيات للمصور بعفوية ويبتسمن ابتسامة بحجم السماء. تومض الصورة، وتضم جنان صديقاتيها الى صدرها.  يجلسن على طاولة مستديرة بالقرب من حمام السباحة الكبير في نادي الأساتذة في حرم الشويخ الجامعي.
كانت الدفعة كلها هناك، دفعة غمرتهم أجمل أيام الدراسة، تعرفوا على بعضهم بلمح البصر وخاضوا معا على مدى الثلاث شهور الأخيرة أكثر الأعمال متعة وإبداع على الإطلاق. عندما يختار طالب كلية الآداب تخصص الإعلام ويُقبل، يعلم أنه في مكان جديد نسبيا. دراسة تمكنت أخيرا من فرض احترامها على باقي التخصصات في الكلية، وطلبتها يعلمون ان فيهم شيء من التميَز. فهم الوحيدون الذين يدرسون في جو مفعم بالأخوة بين الطالب والطالبة، يعملون مع بعضهم و يلتصقون بطريقة غريبة. كلهم يعلمون ان الدراسة لن تكون بغاية السهولة ولكنها جد ممتعة. سلمانة نفسها كانت صحفية في جريدة آفاق الجامعية على مدى 3 شهور مدة التدريب الميداني، وكانت مذيعة لبرنامج أطفال من إخراج صديقتها وضحة، كما عملت كموظفة تسويق لواحد من مشاريع الأطفال الترفيهية. هذا بالإضافة الى مئات الإعلانات المطبوعة التي درسوها والإعلانات التلفزيونية التي حللوها والعشرات من الحملات الإعلامية والتنموية التي دخلوا في معالمها وانتقدوها.
كانت دراسة الإعلام حلم طويل اقتنعت به سلمانة منذ صغرها. وهي صغيرة كانت تحفظ أغاني الإعلانات المختلفة عن ظهر غيب. كانت تلتزم بمواعيد أكثر الفترات عرضا للإعلانات أمام التلفاز وتستمتع فيها كما يتمتع الصغار الآخرون بالرسوم المتحركة وبرامج الأطفال المنوَعة. منذ صغرها كانت تعتقد أنها عندما تكبر تريد ان تعمل مثل تلك الطفلة التي تأكل حبوب القمح في الإعلان وتغني مع النمر الحنون، او تريد ان تكون هي "زينة" التي تذهب مع والدها للبنك وتدّخر في دعاية بنك الكويت الوطني. وهي طفلة كانت تريد ان تعمل كواحد من الإعلانات في التلفاز، كانت تريد ان تكسر التلفاز وتدخل لتغني مع الأطفال " وين وين .. في المدينة الترفيهية ".
عندما كبرت عرفت أنها لا تريد ان تكون إعلانا، لا تريد ان تغني، بل كانت ترغب في ان تصنع الإعلان وتراه يغنى في التلفاز وينشده الأطفال في البيوت في كل مرة يعرض فيها. 

*** 

في مطارات الدول البعيدة يلتقي الناس فيركضون لبعضهم و يتعانقون، تضرب أرجلهم على الأرض بقوة فيخرج صوت الخطوات أعلى من صوت كل الدقائق التي مرّت في ممرات الفراق. يضمان بعضهما بقوة ويقفزان فرحا عارما مع  لحظات الالتصاق. يتمايلان و يذوب الشخص بالشخص لينفضا عن جسديهما كل الوقت الذي مر من بعيد. في المطارات البعيدة، تظهر أصوات الفرح للنور من قعر الصدور لتسمع العالم والمطار البارد ان الصديق او الحبيب او الابن - انه بعد الغياب - قد رجع.
على الكرسي البلاستيكي كانت تنتظر ان يظهر الناس من خلف أنفسهم، كانت تنتظر الخطوات السريعة الصاخبة فلا تسمعها، السلام الحارق الذي يمتد لهبه للناس في المحيط فيعطيهم عدوى الابتسامة والفرحة، فلا تشعر بها. كانت تنتظر الحضن الكبير والبكاء وتأوهات الفرح الممزوجة بضحكات الحزن فلا تجدها في هذا المطار. لماذا لا يشعر الناس بدفء اللقاء وحلاوة العودة هنا؟ لماذا لا يعبرون جسور الزمن لتلمس أياديهم الدافئة الصعيق الذي تتركه الغربة في قلوب العائدين؟ لماذا يترك الحديث كله للمصافحة وبضع هزات طفيفة تتقنها الكفوف التي تخبئ في عروقها دماءا فارت من اللهفة؟
التفتت حولها لتجد الناس جميعهم يلهون عن اللقاء بأشياء اقل أهمية. هل يحتاج المُلتقى لكل هذه المحلات والمطاعم والمتاجر أكثر من احتياجه للشعور الرهيب الذي يخلفه الانتظار للقادم من بعيد؟ شملت البرودة  أطراف المكان و أطراف الناس التي تمد عبر المسافة القصيرة للقادم من بعيد.
عبر الفراغ لمحت عينيها أنثى تنتظر، كانت جميلة ومتأنقة، كانت هنالك شرارة ما في عينيها خمدت لفترة واتقدت اليوم من جديد تطلعًا لمرأى الذي سافر. في يدها هاتف يرن ولا تجيب ومن حولها 3 أطفال غاية في الجمال. غسلت الصغار بصابون وعطر، ألبستهم أحلى ما عندها وعندهم ومشطت شعرهم كثيرا حتى صار خال من العيوب. كان الصغار ينتظرون والدهم بلهفة، يتراكضون هنا وهناك ويلعبون بكل ما يلعب به، يعودون للأم المتألقة ليسألوا عن موعد القدوم. تجلس على ركبتيها لتنظر في عيونهم وتخبرهم انه على وصول. فُتحت البوابة، وفتحت عينيها الجميلتين نورا على الناس الدالفين، كانت تنظر وتنتظر وابتسامة ما كانت لا تفارقها. ارتعشت شفتاها ما ان رأت القادم من بعيد، كان زوجها متألقا ومتأنقا مثلها، هو أيضا استحم بصابون وعطر ومشط شعره حتى تعب. ركض نحوهم ليضم الصغار ويعصرهم بين ذراعيه، تطايروا الثلاثة من حوله، يغنون ويتقافزون، يلمسون كل جزء فيه و يسألونه كل الأسئلة التي قالت لهم أمهم أن يسألوه ما إن يعود. وهي اكتفت بقبلة سريعة على خديها ولمسة خاطفة ليديها الرقيقتين. قبّل خديها وهو ينظر للناس ان كانوا رأوا المشاعر التي فارت بغفلة منه! لم تتعلق المرأة المتلهفة بأحضان زوجها بعد غياب دام شهور، لم تنزف كل ألم الفراق على صدره ما ان رأته، و لم تقبل الوجه الذي نامت طويلا على سرير خال تحلم به. لم تخضبه بدموعها، و لم تلمس الجسد الذي كانت تشتهيه كل ليلة.
 لازال التعبير عن المشاعر الإنسانية الصادقة حكرا على الغرب الذي لا تحكمه قبضة العيب، ولازلت العفوية محسوبة ضد التقاليد التي تقيّد كل ما يمثله جوهر الإنسان من تلقائية.
تذكرت و هي تجلس هناك، كم كان يؤلمها و يسعدها هذا المكان، فارقت العديد من الأصدقاء حتى وإن كان فراق مؤقت، فالفراق رحيل، والرحيل حاجز جغرافي كبير يبعد الوجه عن العين والحب عن القلب. لم تصدق يوما ان البعيد عن العين بعيد عن القلب. و لكنها عندما قررت الرحيل ابتلعت غصة المقولة وأقنعت نفسها أنها ستنساهم.
و هي هناك .. كانت تنتظر اللحظة التي ستنساهم فيها، لحظة فقدان الذاكرة كما كانت تسميها، كم كانت تود لو ينقلب فيها القطار، ان تسقط فيها الطائرة  فلا يتضرر إلا ذاكرتها. كانت تتمنى لو يُسقط الله زخّة كبيرة من المطر فتقع على رأسها و تنسى أناس سكنوا ماضيها. كانت تحب حياتها، متمسكة بخيوطها ولكنها أماتت جزءا منها لتحياها كيفما شاءت!

أتى الصوت المنادي من جديد، ارتعشت في مكانها ورفعت رأسها لسقف المطار، وابتسمت من جديد على نغمات الكلمات.

يتبع ....


تعليقات

‏قال ARTFUL
مرحبا اهلا وسهلا

والحمدلله على سلامة سبمبوووت

ما تصدقين شكثر استانست

الانسان العربي أو الخليجي او الكويتي لا أعلم بالضبط ، لديه سجن كبيييييير للمشاعر قد يتسع لقطيع من الفيلة.

وخاصة مشاعر الفرح او الحب

حيث تجد المشاعر تتدفق بقوة من قلبه وعقله وتجري بدمه وتكاد تصل الى حواسه ، فيخرج السجان بسوطه ليكبت تلك المشاعر!!

يعجبني بالغرب فرحة الطفل بحصوله على لعبة كان يريدها وحصل عليها لتوفقه بالدراسة فتجده يصرخ ويقفز ويكاد يخرج للشارع ليخبر الجميع لما حصل عليه .

وتجد فرحة التخرج تخرج من القلب حيث يقومون بالرقص والغناء

وتجد مشاعر الشوق والحب لا يكبتها وجود جار او صديق او أم أو أب!!

قد يرحم الله أناسا من شعبنا يؤجل مشاعره الى وصوله للبيت!! لكن 100% ستكون قد قلة حرارتها

أحاول بكل ما اوتيت من قوة أن لا أغير هذا السلوك الفطري عند أطفالي وآمل أن يستمر معهم ،، لأنه جميل (:
‏قال سبمبوت
هلا والله بالصديج آرتفل ..

كنت اعلم انك أول من سيسعد لمزاولتي الكتابة من جديد. من اجمل القراء انت.
فعلا تلك المشاعر المخنوقة تحت "سنع" العباءة و "رجولة" الشوارب! من قال اننا يجب ان نخفي ما فطرنا على اطلاقة حرا بريئا الى السماء، يستنشق الهواء العليل ويخرج من صدورنا الإنسانية الصغيرة الى رحم السماء.

رأيت اطفالك في صورة ما اروعهم احباب الله، اجمل من الجمال والطف من رفرفة فراشة ملونة على ارنبة أنف طفل مفتون.

كن دائما رحبا معهم كما انت، لا تجعل التقاليد البالية والنظرة البائدة تأخذ منهم أجمل ما فيهم .. عفويتهم، حتى وإن كبروا يجب ان تدوم العفوية وتنضج .

اسعدك الله بهم وحفظهم لك من كل مكروه
‏قال غير معرف…
plz the old story mita btkamlenha ?
im checking ur blog daily waiting for the new part
thanks
‏قال ARTFUL
آمين أجمعين يا رب (:

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

امرأة تحب النساء !

" غدّونة" تذهب للمدرسة !

أنا عندي أرنبه ..