( سلمــــــــــــــــانة ) 11

لم تعد تخجل من النوم على الكراسي البلاستيكية في المطارات، فقد عرف صانعوها منذ البداية ان الكثير من الأجساد المتعبة ستغفو عليها وتذهب بعيدا جدا عن جمر الإنتظار. تذكر انها نامت أول مرّة في مطار هيثرو عندما كانت ذاهبة من منفاها الى دبي. ساعات انتظار طائرة الوجهة الجديدة تعدّت السبع ساعات وهي لم تنم منذ اكثر من 12 ساعة. على كراسي احدى البوابات المنبسطة وضعت حقيبة يدها تحت رأسها، لم تكن تريد النوم ولكنها اغمضت عينيها لترتاح من الحاح الضوء، ولم تستيقض إلا والعاملة تخبرها انها لحظة المغادرة! غزاها النوم كدبابات من نمل حاني فاستفحل فيها النعاس .. فلم تعد تسمع او ترى.

منذ تلك اللحظة وهي لا تتوانى من فك عقد الصحوة على البلاط البارد، تستلقي وتسترخي فتنزلق لؤلؤات اليقين واحدة تلو الأخرى، تتقافز هنا وهناك الى ان تهدأ طقطقاتها .. وتنام.

تذكر أنها صحت مرّة في مطار فرانكفورت على يد تتلمسها، كان رجل خمسيني اشعث قد فاحت منه رائحة الكحول، ارتأى جدوى اشباع رغبته الثملة في جسد فتي قد افترش الأرض منهكا من الترحال. وضع يدا مرتجفة في بنطالها! استفاقت لتجد يده الأخرى تهم في التقاط طرف ثيابها! كان سعيدا منتشيا في الكنز الغافي الذي وجده على الأرض. قفزت من مكانها دفعته عنها حتى فقد توازنه وارتمى على الأرض يضحك مجلجلا في أنحاء المكان. كان الوقت فجرا، والمطار شبه خالي إلا من أجساد هي الأخرى اعياها الترحال.

تذكر انها ركلته، عدة مرّات و لم تتوقف إلا عندما توقفت ضحكته المقززة وأخذ يتوسل بالصفح والغفران. قال لها " أنا آسف .. انت لا تشبهين النساء التي نعرفهم .. انت مختلفة .. انت جميلة .. وانا سكران"!

حتى بعد تلك الحادثة لم تتوقف عن سرقة غفوات من عين السفر، ولكنها تبنت تكنيكا جديدا في النوم وهي جالسة وبنصف اغفاءة.

على كرسي بلاستيكي في مطار الكويت، هل تستطيع ان تنام؟ ستلتهمها مئات العيون التي لا تشبع العب من أجساد النساء، ستزحف على جسدها الرابض مئات النظرات مصحوبة بملايين التخيلات البذيئة والتصورات القذرة، ستطوقها عشرات النوايا في الإقتراب وربما اللمس، ولكن لن يقوى احد على تنفيذ عُشر الرغبة. هنا يُكتم نفس الرغبات الجسدية بألف وسادة خانقة، وتُغلف تلك الطاقة البشرية الكامنة بألف كيس قمامة وتلقى في مكب ما بعد الزواج! وان لم يأتِ المهدي المنظر لا يهم، يُحمل الكيس منفوخ الجيفة على وشك الإنفجار ويلقى بعيدا الى ما بعد الحياة، عندما تجد العذراء فارسها الوسيم، ويجد الفتى سبعين من الحور العين.

نامت أخيرا في مطار الكويت، تقرفصت في كرسيها البارد ونامت عن خمس سنوات قضتها ضيفة على مخلوقات الله. نامت في مطار الكويت غير عابهة بالبرستيج الذي كانت تحترفه، ولا العيون التي ستعتليها صعودا ونزولا في مصعد تقاليد واعراف أميرات الرقي والإعتزاز. نامت تحت السماء التي انجبتها ثم تركتها سائحة في سماوات العالم بحثا عن الترياق الذي سيجعلها بجعة بيضاء مثل باقي البجع.


***



تلّقت سلمانة اتصالا هاتفيا وهي في معمعة مقابلة وظيفة في احدى المدارس الخاصة، خنقت الرنين واعتذرت على المقاطعة.
 وضعت المدرسة في الصحيفة اعلانا عن رغبتها في توظيف مشرفة للعلاقات العامة، فقد اشتهرت المدرسة مؤخرا مما دفعهم لتوسيع المبنى بساحاته وفصوله لإستيعاب عدد اكثر من الطلبة، كما انهم بصدد انشاء فرع آخر  في منطقة الأحمدي البترولية لما لها من أهمية اكتسبتها من تواجد فئة غنية ارستقراطية من المدراء الوافدين العاملين في مؤسسات البترول الكويتية الذين ينزحون للكويت بعقود عمل عائلية من الشركة تمكنهم من احضار أسرهم للعيش في الكويت والتعلّم في مدارسها الخاصة الباهضة التكاليف.
أحبت سلمانة فكرة العمل في مدرسة لإنها تحب الأطفال، فالوظيفة – ان حصلت عليها – ستمنحها فرصة لابأس بها في العمل لهم ومعهم، لذلك حرصت على التألق في المقابلة التي مكنتها من تقديم شخصيتها، طموحاتها وخبرتها العملية والعلمية بصورة واثقة وجميلة. أخبرتهم سلمانة عن بعض الافكار التي وضعتها على الورق قبل ان يحين موعد لقائها معهم، بعض الإستراتيجيات التي من المفروض ان تكسب اسم المدرسة سمعة راقية وأداء مشكور في مجال التربية والتعليم. كما انها طرحت ايضا بعض المقترحات لرحلات وأنشطة ثقافية وترفيهية سيتولى قسم العلاقات العامة تنفيذها ما ان تشرف عليه بنفسها. استطاعت الفتاة العشرينية ان تبهر اللجنة ومديرة المدرسة بروحها المليئة بأطنان من الأمل والطموح، وبلغتها الإنجليزية الممتازة.
خرجت سلمانة من المقابلة، ركبت سيارتها وطلبت الرقم الذي هاتفها وهي في المقابلة، رن الهاتف واذا بصوت تعرف ملامحه:
-  سلمانة
-        نعم؟
-        عرفتيني .. انا مريم؟
-        مريم !! شلونج؟  شخبارج؟ انتي بخير؟
-        أنا بخير الحمدالله، عدّت الأزمة على خير وانا الحين بأحسن حال
-        صج؟ والله فرحتيني .. كنت وايد خايفة عليج، انتي وينج الحين؟ رجعتي بيت اهلج؟
-        لا سلمانة ما رجعت ولا ابي ارجع، أمي لمّا الحين ما تبي تشوفني، واخواني بعد إللي سووه فيني لا يمكن ارجع اعيش عندهم. اصلا اهما بعد ما اعتقد ان يبوني ارجع البيت.
-        عيل انتي وين الحين؟
-        أنا عند صديقة .. قاعدة عندها بشكل مؤقت!
-        ومحمد؟
-        زفرة: محمد الله يعينه!
-        شصار فيه؟
-        قصة طويلة .. انتي فاضية الحين ؟ خليني اشوفج
-        اكيد .. وين تبين نروح؟
-        أي مكان!

اقفلت سلمانة هاتفها واتصلت على امها تخبرها انها ستذهب لترى هديل في أحد المقاهي، لم تخبر والدتها ان مريم من ستلتقي بها لإنها مسبقا تعلم أن مريم قد وضعت في قائمة الممنوعات من حياتها. تعلم سلمانة الأثر الذي خلفته حادثة مريم على كل من حولها، وتعلم ايضا كيف انتشرت الحكاية في اوساط نساء المجتمع بسرعة فائقة وتفاصيل مملة حقيقية كانت او مزيفة، فشتمت الأفواه فتاة أحبّت وباعت الكثير بإسم الحب. يعرف الجميع في الكويت ان هناك الكثير من القصص والحكايات المشابهة التي تحاك اطرافها في حفرة معتمة بإسم الحب. تعرف النساء الكثير من الجارات والصويحبات او حتى القريبات اللاتي التقين بأزواجهن قبل الزواج على اكثر من مستوى وأكثر من عمق. ولكن الكل يخرس طالما ان مشروع الفضيحة لازال في طي العتمة.
مريم من وجهة نظر سلمانة لم تخطئ، هي فقط تصرفت اتجاه حبها بخطوات اكثر انفتاحية، ما فعلته مع محمد في ذلك العش أمرا خاص جدا بحدود جسدها، هي الملامة أولا وآخرا، وهي من سيحاسب يوم الحساب .. فلماذا يقف المجتمع قاضيا حاكما بالقيء على انسانة يعلم كل من فيه أن حسابها لابد آت.
تلاقت الكفوف متبوعة بعناق ودود في أحد المقاهي المتربعة في وسط منطقة سكنية محلية قريبة من بيت سلمانة، لم تكن سلمانة خائفة ولا مضطربة لمرأى الفتاة التي كادت ان تموت ضحية مفهوم بدائي للشرف. لقد انتهى زمن الموصومات بتلف الأخلاق، المبصوق عليهن والمنبوذات من مجتمع امتهن الإحتقار دون النظر طويلا الى نفسه! حتى عندما كانت تأتي سيدة لنبي الله تخبره أنها زنت، لم يحاكيها بقرف ولم يلقِ عليها الفاظ صَغار. كان عليه الصلاة والسلام مهذبا راقيا يعرف الإنسان وضعفه، ويعرف ما لهذا الضعف من عواقب وعقاب.
جلست مريم بالكرسي المقابل لسلمانة، هزيلة نحيلة لم تختف من وجهها بعد علامات الجزع. عندما جلست، تعمدّت ان تنزل على الكرسي بهدوء لكي لا تثير نحيب الجرح الذي قبع اسفل بطنها، وبين فترة واخرى تضع يدها اليسرى على الكرسي لترتاح عظامها المهشمة. بلا مقدمات، اخبرت مريم سلمانة باليوم الذي كتب عليها اخوتها الموت، محاولات الإيلام والتعذيب كانت اكثر وقعا عليها من القتل السريع. كانت ترى الشرار في عيونهم، يتلذذون بالضرب والركل والإذلال، حتى ان اخيها الأوسط وضع حذاءه على وجهها لكي يثبت رأسها عن الحركة وليتمكن أخوها الصغير من كسر فكيها برجله! قالت انها لم تتوسلهم ان يتوقفوا، لم تستجديهم الرحمة، ولم تفتح فمها برجاء. كانت تعلم ان محاولاتها لن تجدي في رجولتهم المصطنعة ولن توقف هوجة البركان. طوال اعمارهم كانوا يسمعون أن الفتاة عبئ على الكاهل، يسمعون أن البنت لا تأتي إلا بالمصائب! فما المانع من كسر جمجمة المصيبة التي أتت عنوة لتنغص عليهم عالمهم الذكوري. كانوا يعلمون ماذا يريدون، يريدون التخلص من الحمل الثقيل عندما اعطاهم ذلك الحمل سببا وجيها لا رجعة بعده. حتى عندما اخبرتهم ان محمد مستعد لخطبتها والزواج منها في نفس اللحظة الذي طعنها فيها فوّاز اخيها الكبير – في بطنها، لم يتوقف، بل زاد قوة الانقضاض!
سألتها سلمانة ان كانت تتألم، فأخبرتها ان ألم الذل على ايدي مدنسّة بنفس الخطيئة كان اكبر من كل شيء.
يسترجعن هي وسلمانة بصمت ما كان يحدث في أيام المراهقة المبكرة، كل في ذاكرتها .. وحدها. عندما كانوا يتسللون الى غرفة اخيها الكبير عندما يغادر المنزل، فيجدون عشرات من صور الفتيات العاريات. يستمعون الى عشرات الأشرطة المسجلة التي كان يحتفظ بها فوّاز في خزانته، كلها توّثق محادثات طويلة وأحيانا بذيئة مع فتيات اغلبهم ارادوه زوجا فأطاعوا نزواته علّها تعجل بالنصيب.
لازلن يتذكرن تلك الفتاة، كان اسمها سحر، التي سجلها فوّاز وهي تبكي حرقة الخوف عندما كانت تخبره ان والدها عرف بشأنه، وقد ضربها وهددها ان لم يتقدم لخطبتها فإنها لن تر الشارع من جديد، وسمعن كم كان فوّاز حقيرا باردا عندما اخبرها ان ظروفه المادية لا تسمح للزواج، وأنه صغير على اتخاذ مثل هذه الخطوة الكبيرة. أخبرها ان تصبر وتحتسب، فستجد يوما من الأيام رجلا يتزوجها، ولم ينس ان يرش الملح على جرحها الغائر عندما نصحها بأن لا تكون سهلة رخيصة مع الآخرين مثلما كانت معه، فعندها لن يتزوجها أحد!!
لازلن ايضا يتذكرن عندما حاول الأخ الأوسط جاسم ان يوقع صديقتهم جنان بشباكه، عندما كان يتبعها الى بيتها بعد زياراتها لأخته، وعندما قال لها انه حقا معجب بها ولكنه يؤمن بالتعارف والتلاقي لفترة "تتآلف فيها الأرواح" قبل أن يتم عقد القران! جنان كانت ذكية ولم تقع بالشباك.
 حتى أخيها الأصغر حميد لم تخلو حياته من مبادرات قد احترفها الشباب في هذا البلد، فرضوا بها على أخوات الغير وحرّموها على نساءهم. هل هو جهل؟ أنانية؟ او غباء توستوستروني في أبسط معطيات الحياة قد غلفه غشاء الأعراف الفضفاضة، واسعة عليهم وضيقة على الأنثى من حولهم، فلم يعودوا يبصروا مصباح النور الخافت الملقى عميقا داخل دهاليز أي امرأة؟
أفاقت سلمانة من الصمت الذي اطبق فجأة زائرا قسريا على الحوار وسألت مرّة أخرى عن محمد؟ اين الرجل الذي وعدها بالزواج؟ الذي اقسم انه يحبها، انه لن يتركها؟ الذي – مثل باقي الرجال – وضع لها الشمس والقمر في قرطي من الألماس اشتراهم لها من تيفاني هدية لها دلالة على حبة ودليل قاطع انه لها؟
امتلئت عينا مريم بالدموع وهي تخبر سلمانة أنه اختفى، بعد خروجها من المستشفى بحثت عنه في كل مكان! سألت كثيرا الى ان استجمعت كل ما تبقى لها من جرأة واتصلت بأمه لتسألها عنه. ادركت مريم من نبرة صوت والدته انها تحملها ذنب ضياع ابنها، صرخت أم محمد في وجه صوت مريم على الهاتف بعدما فهمت الأخيرة من حوار الضجيج ان محمد في السجن! لفق له اخوتها تهمة حيازة مخدرات ورموه بعيدا في أحد السجون ينتظر أولى جلسات الإستماع في المحكمة. لم تكن مريم تقوى على كتمان العويل، فقد أز الجرح دما وقيحا الى ان جفّت سوائل الألم في قلبها، هي مشتتة ومشوهة ولا تعلم ما المصير! اين ستذهب؟ ماذا ستفعل؟ من اين تبدأ؟ ومتى سينتهي الكابوس! سألت بحيرة:
-        سلمانة .. شسوي؟
-        رتبي اولوياتج مريم .. سألي نفسج أول شنو تبين .. انت شنو تبين؟
-        ما ادري .. انا ضايعة
-        لازم تلقين الطريج
-        كل شي مسدود بويهي! أنا محرومة من شوفة أمي واختي، محرومة من اني آخذ ملابسي، سيارتي، تلفوني، محرومة من بيتي!
-        رجعتي الشغل؟
-        الأحد الجاي أول يوم
-        والسكن؟
-        أنا قاعدة عند نيفين، صديقة فلسطينية من الشغل، أنا ضيفة عندها لمّا اعرف وين بروح.
-        كلمتي أمج؟
-        ما تبي تكلمني، ومنال خايفة تكلمني، لإن لو دروا انها تتصل فيني راح يكون مصيرها مثل مصيري.
استمعت سلمانة طويلا لذلك الكيان الأنثوي الدافق الذي خسر كل شيء! الأبواب الموصدة في وجة مريم كانت ايسر ما كان ينتظرها. اين تذهب امرأة موصومة بكدمات الفضيحة واضحة مثل الشمس على جبينها؟ هل حقا سترجع مريم لعملها يوم الأحد؟ هل ستجد الجرأة الكافية لتواجه العيون التي امتهنت التحديق في كل شيء؟ هل فعلا ستعرف مريم كيف تعيد بناء اسم ملوث رقص في الأفواه الى ان هلك وسقط؟
في الكويت، عرف الناس الذين عادة ما يجدون متسعا من الوقت، كيف يملؤون الفراغات الطويلة في أيامهم، يتكلم الشعب هنا اكثر مما يفعل اي شيء آخر، ولإن البلد صغيرة وجميلة،  تنتقل الأحداث والأخبار والنميمة اسرع من الضوء الذي يأتي كل يوم من بلاد الشمس ليشق اول خيوط الصباح.

عاهدت سلمانة صديقتها بأنها ستساعدها قدر المستطاع، ضمتها الى صدرها من جديد قبل ان تغادرها، علها تثبت لها ولنفسها أنها لا تزال تؤمن في داخلها بالبدايات الجديدة!



يتبع ...


تعليقات

‏قال ARTFUL
هل هو جهل؟ أنانية؟ او غباء توستوستروني في أبسط معطيات الحياة قد غلفه غشاء الأعراف الفضفاضة، واسعة عليهم وضيقة على الأنثى من حولهم، فلم يعودوا يبصروا مصباح النور الخافت الملقى عميقا داخل دهاليز أي امرأة؟

لا اعلم ما يجب تسميته ولكنها حقيقة مؤسفة

يغفر للرجل ما لا يغفر للمرأة

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

امرأة تحب النساء !

أنا عندي أرنبه ..

" غدّونة" تذهب للمدرسة !