( سلمــــــــــــــــانة ) 12

رحب والد سلمانة بالفكرة عندما اخبرته انها ستعمل في مدرسة، وقطّب جبينه عندما عرف انها مدرسة خاصة مختلطة تمتد ساعات العمل فيها الى الساعة الثالثة! صمت قليلا عندما عرف ان المدرسة تحتل موقعا قريبا من منطقة سكنهم، وناقش معها موضوع ان العمل بتلك المدرسة الخاصة سيتطلب احيانا من سلمانة ان تعمل الى ما بعد الساعة الثالثة! ولكنه آثر الموافقة عندما علم ان أولاد اخيه الصغير – عمها – يدرسون في ذات المدرسة، وأنها في النهاية ما هي إلا موظفة في "مدرسة".

هي لا تعلم كيف يفكر والدها، ولكنها أحيانا كثيرة تحاول ان تضع نفسها في مكانه: رجل خمسيني متقاعد يقضي جل وقته في ديوانيات الرجال متوسطي العمر، يقرأ المجلات المحلية المتخصصة بالجريمة والفضائح، ويستمع الى ما يقوله اصدقاءة من الرجال الذي عادة لا يشغل وقتهم سوى اجترار القصص المخيفة والوساويس المتهالكة.

تذكرت كم كان والدها مرعوبا من الإنترنت عندما طلبت منه اشتراكا للشبكة، مبررا هلعه بقصة ابنة اخت صديق صديقه التي بدأت في مواعدة الرجال بعدما عرفت طريقهم من دور المحادثات العامة على الشبكة العنكبوتية، ناهيك عن الفتيات اللاتي سمع انهن يتنقلن بين مواقع العري والجنس مكتسبين ثقافة لا داع لها. وافق على مضض في نهاية الأمر عندما اخبرته أن الكويت تمنع تلك المواقع المشبوهة نهائيا من أفقها، وأنها غير مهتمة بمحادثة الغرباء بقدر اهتمامها بمحادثة صديقاتها وقريباتها على الماسنجر.

دار هذا الحديث منذ اكثر من ثمانية سنوات خلال سنين مراهقتها، ولكنها بقرارة نفسها تعلم ان والدها يفكر بعقلية الدواوين التي يرتادها، والرجال الثرثارين الذين يجالسهم والذين لا شغل لهم إلا اجترار سيرة الفضائح!

فازت سلمانة بوظيفة المدرسة، وشمرت عن ساعديها لتثبت للمديرة ومساعدها أنها قادرة على تولي المنصب والقيام بكل ما هو مطلوب. فبدأت سنتها الدراسية الأولى بتنظيم حفل تعارف صغير للهيئة التدريسية والإدارية في المدرسة خصوصا بعد انضمام طاقم جديد من المعلمين والمعلمات الأجانب الى مجموعة الموظفين. تألقت سلمانة بالإفتتاح، وأخذت على عاتقها ان يعرفها الجميع من اول يوم لتكون بذلك الوجه البارز للإدارة، ونقطة الوصل بين هيئة التدريس والإدارة.

رحبت بالجميع، وأخذت تعرف عن نفسها بإتقان وبلغة انجليزية ممتازة حتى دهش اعضاء هيئة التدريس الأجانب من بلاغة الفتاة المحلية وذكائها. كما انها ضربت عصفورين بحجر عندما أصرت على والديها ان يحضرا حفل التعارف لتطمئن قلوبهم ان المحيط الذي ستسبح فيه ابنتهم خالي من اسماك القرش والحيّات السامة. حضر والدها بدون امها، وقد استطاعت من بعيد ان تلمح ابتسامة رضى متوارية خصوصا عندما قامت مديرة المدرسة بنفسها في ضيافته وامتداحها له. أحب والدها المجتمع الجديد الذي ستنغمس فيه ابنته، ووجد في محيط العمل الأجنبي الجاد والصارم عزاءا كبيرا عن مواقيت العمل "المتأخرة"، فهم في النهاية ناس بمنتهى الحرفية لا يجدون وقت للعب وتضييع الوقت.

عندما رجعت البيت، استقبلها بحنان، وسمعته عندما كانت تهم بالخروج من غرفته يخبر والدتها انه فخور بها.

ابتسمت سلمانة ونامت ليلتها بهدوء


***

منذ ان تركت الكويت اعتزمت ألا تعود، أخبرت كل من يحبها أنها لن تعود! فما رأته داخل هذا البلد الصغير كان اكبر بكثير من اعطاء علاقتهما بالأرض محاولة أخرى، لم يكن الأمر من وجهة نظرها يحتمل مبادرات صلح. ادركت ان الوطن لا يحبها فقررت هي الأخرى ان لا تحبه. لملمت كل الذكريات السعيدة التي جمعتها بلحظة وئام مع الوطن، وضعتها في صندوق حديدي صغير بمفتاح، اقفلت الصندوق واضاعت المفتاح.
هي الآن لا تحتاج للذكريات، فقد قررت ان تصنع باقة جديدة من الذكريات تلملمها من كل بقعة تزورها، علها تعادل ما كانت تملكه من حنان الوطن. اقنعت نفسها ان الترحال أجدى من البقاء، وان الرحيل سيسد نهرالألم داخلها فتنسى الماضي وتدخل عالم الأمل من جديد.
عندما اعتزمت الرحيل، عندما مسكت جواز مصيرها بيدها احتارت اي البقاع ستطبع على جبينه، دولة شقيقة؟ ابنة عم بعيدة؟ أم بلد غريب لا يمت لدمها العربي بصلة!
كالمجنونة اشترت خريطة العالم ومجسم للكرة الأرضية، وأخذت هي واصبعها –كل يوم- يبحثان عن الوجهة الجديدة. كانت تغمض عينيها، تدور حول نفسها، ثم تضع اصبعها الأعمى على صدر الخريطة، تقرأ اسم المكان فلا يعجبها وتعيد المحاولة. تدير الكرة الأرضية أمام عينيها، تلف الكرة ولا تتوقف إلا عندما ترغمها بإصبعها على الهدوء، تقرأ المكان .. لا يعجبها فتعاود الكرّة!
فتحت عينيها على يد تربت على كتفها، قطبت جبينها لترى عاملة هندية من العاملات المسؤولات عن نظافة المطار تقف فوق رأسها، كانت العاملة تحدثها بلغة عربية ركيكة لم تستطع فهمها في بادئ الأمر، ولكنها عرفت من الإبتسامة الحنونة التي كانت ترتسم على الوجة المنهك أن تلك المرأة الفقيرة .. تنوي لها خيرا.
انتصبت على الكرسي وأعادت الإبتسامة، هزت يدها لتستفهم اكثر عن ماذا تريد المرأة:
-        انتي يبي نوم؟
هزّت رأسها بالنفي
-        انت واجد تأبان !! مسكينة حبيبي .. تعال .. انتي نوم في آنا غرفه.
-        NO ..no .. thank you
-        انا ماكو انغلش
استدركت:
-        لا .. مشكورة أنا ما يبي نوم .. خلاص
-        ليش؟ حبيبي انتي بنتي هلوة .. ما ينام هني .. كله ريال شوف!
-        مايخالف
-        لا مايخالف .. ما يصير انتي نوم هني !
-        مشكورة
نظرت الى الأسم المكتوب في بطاقة تعريفية على صدر المرأة
-        مشكورة فريدا
-        انتي وين زوجي؟ اخوي؟ ما أحد ييجي ياخذ؟
-        لا فريدا .. آنا يروح بيت بعدين ..
-        متى؟
-        I have no idea
بعصبية:
-        أنا ماكو انغلش!
ابتسمت لطرافة فريدا:
-        فريدا .. انتي شنو تبين؟
-        أنا ما يبي بنتي ينام هني .. مو زين!
-        بس أنا دايما  سوي نوم في مطار .. مطار فرنسا، مطار امريكا، مطار ساوث افريكا، مطار انديا
-        انتي يروح انديا؟؟
-        يس
-        أنا تلاته سنة ماكو يروح انديا .. بنتي تلاته سنة ما يشوف!
-        ليش؟
-        لازم يجيب فلوس .. بنتي شادي كارو .. زواج
-        فريدا .. الله يعينج
-        انشاالله .. الله كريم
-        انا يروح يشتري قهوة .. انتي يبي قهوة؟
-        No .. coffee No
بعصبية مصطنعة:
-        فريدا .. أنا ماكو انغلش!!
تركتها فريدة لتستلم مناوبتها في تنظيف حمامات النساء في المطار.
وهي تجلس هناك تقابل كوب قهوة، استعادت ذكريات العمر الذي قضته هنا، عندما بدأ على ايدي الخدم، وانتهى على دموع الخدم. في لحظة نادرة في البيوتات الكويتية، تتحول الخادمة احيانا الى انسان له قيمة، خصوصا عندما تتنحى الأم انشغالا بأشياء اخرى، فتخطو الخادمة خطوة للأمام، تجعلها أحيانا صديقة حنونة، واحيانا كثيرة أما .. أولى!
 في المقهى الذي جلست فيه، كانت تلمح اطراف بوابة الخروج الكبيرة، تلك الفوهة التي ستلفظها لبطن الكويت. منذ اكثر من خمس سنوات لم تر وجه الكويت، تتذكره اسمرا بلون صبغة الشمس البرونزية، عينان من لؤلؤ، وشعر اسود طويل منسدل، ياقة مرتفعة وتاج من تاريخ وحلم وأمل.
على الرغم من كل ما حصل، وعلى الرغم من كل نوبات الغضب واختلاف وجهات النظر وسوء التفاهم والفراق، تجد نفسها تفهم الكويت .. وتعذرها!




يتبع ...

تعليقات

‏قال ARTFUL
صباح الخير

متابع (:

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

امرأة تحب النساء !

أنا عندي أرنبه ..

" غدّونة" تذهب للمدرسة !