( سلمــــــــــــــــانة ) 14




انخطبت هديل !!

جاء الخبر كالصاعقة على نجلة والدة سلمانة، هديل صديقة ابنتها المقربة ذات النسب الأقل قدرا ومكانة من نسب ابنتها، تخطب وتتزوج قبل سلمانة؟! كيف واين ومتى ولماذا يلعب النصيب لعبة مهلكة مع اللأمهات اللاتي كبرن منذ الصغر على مفهوم واحد للأفضلية، " من سبق من في الزواج! "

تلقت سلمانة الخبر فأحست بجناحين من سعادة يحملانها من على الأرض. تحملت هديل الكثير من المآسي في منزل تحكمه زوجة أب تافهة لا تعرف ولن تعرف كيف تفرق الجد عن اللعب. تتغابى زوجة والدها الشابة التي تكبرها ببضع سنين لتوقع هديل وأخيها في أشد انواع العقاب، والوالد المخدوع يصدق ويفعل ما تمليه عليه أميرته المدللة. تتضاحك في النهاية، معلنة أنها ربحت المعركة!

خطب هديل شاب اسمه جاسم، موظف محترم كان ولازال يعمل معها في نفس الوزارة، توطدت علاقة صداقة عملية متبادلة بينهما الى ان احضر والدته الى بيتها وطلب يدها بدون مقدمات. ألفته هديل منذ البداية، فقد كان واحدا من هؤلاء الرجال البسطاء الذين يشعرون جليسهم باالدفئ والأمان. ترددت العروس في البداية خوفا مما سيقوله عنهم الناس وخصوصا الموظفين معهم في الإدارة، ولكنها نفضت كل المخاوف السخيفة من رأسها، استخارت الله ووافقت.

لم تكن هديل يوما مثار شغب، ولا صاحبة متاعب، لكن بخطبتها – دون ان تعلم – فتحت نارا في صدر أم سلمانة التي لم تستوعب بعد ان ابنتها لازالت ضمن العانسات! لا تقوى أم سلمانة على رمي الكلمة الأعنف بوجه ابنتها، ولكن سلمانة تراها تتراقص بثقل في عيني والدتها التي رفضت الذهاب الى حفلة زفاف هديل متحججة بالوقت الذي لا يناسب مع ارتباطاتها المسبقة. وعندما تركت سلمانة الغرفة وعادت بعد ساعات، وجدت بطاقة الدعوة مفصولة الى نصفين وملقاة في سلة المهملات.

عادة ما تبتسم سلمانة عندما تبدأ نوبة هيجان والدتها على موضوع الزواج، ولكنها في الآونة الأخيرة أحسّت ان الأمر بدأ يتعدى حدود احتمالها ويتخطى ما بقى عندها من صبر!

ببساطة تعتقد نجلة أن هناك علّة ما في ابنتها، فقد اكملت الخامسة والعشرين ولازالت بغير زوج! زارها وابل من العرسان عندما تخرجت من الجامعة ثم توقف الغيث لتدور والدتها حول النار معلنة حداد من نوع جديد! بدأت في قراءة آيات من القرآن الكريم على ابنتها علّها تفك سحر الحاقدين، وشرعت في نثر ماء الثوم على شعر ابنتها بين فترة واخرى لتغادرها عيون الحاسدين! كما ذبحت اربع دجاجات على عتبة غرفة ابنتها لتبارك دمائها مخدع البكر التي فاتها القطار.

وعندما خُطبت هديل، تحوّل هوس نجلة الى شكوك بدأت تنخر في قمة رأسها: لعلها البنت لم تتزوج لإنها سيئة السمعة! او لإنها تقدم على افعال مشينة وهي ووالدها لا يعلمان عنها شيئا، لم يكن النصيب ومشيئة الرب سبب منطقي قابل للمناقشة في مجالس حوار الأم السرية مع نفسها. منذ تلك اللحظة وحياة سلمانة قد تحولت الى شيء يشبه الجحيم بعد ان ارتأت الأم ان من واجبها حل لغز النصيب الذي حمل حقائبه وسافر مع القطار!

في الفترة ما بين استلام دعوة عرس هديل وموعد حفل زفافها المتواضع ثلاثة اسابيع كاملة، حرصت نجلة خلالها على ان تتسلل خلسة الى غرفة ابنتها تفتش عن دليل الإدانة. تتنصت من وراء الباب على مكالمات سلمانة الهاتفية، وتعبث في هاتفها النقال، دفاترها ومذكراتها تقرأ كل ما تقع عليه عينيها. وفي يوم عندما استعدت سلمانة للذهاب للعمل، ودعتها الدتها ثم لحقتها متخفية في سيارتها لتتأكد بنفسها أن البنت ذاهبة الى مقر عملها، لا مكان آخر.

كانت تعلم سلمانة ان والدتها قد وصلت لمرحلة متقدمة من الهوس، ولكنها آثرت الصمت لكي لا تزيد عذابات الأم المكلومة بمصيبة تأخر زواج ابنتها شجارا ومجادلة. تلك كانت الفترة الوحيدة في تاريخهما الطويل التي كانت المرأتان تسكنان في بيت واحد لا في قلوب بعضيهما.

غدا موعد الزفاف، سلمانة وهديل تستلقيان متجاورتين في سبا صحي مترف، هديل تحضى بدلال العروس، وسلمانة تتلقف بعضا من دلالها. رن جرس الهاتف النقال فلم ترد سلمانة، خمس دقائق ويرن جرس الهاتف من جديد، استفاقت الاثنتان من استرخاء لذيذ تحت يدي المدلكات، لتنتشل سلمانة هاتفها وترد:

-        ألو

-        السلام عليكم سلمانة .. أنا منار اخت مريم

-        اهلين .. هلا منار .. خير .. مريم فيها شي؟

-        أنا إللي داقة اسألج، اهي كلمتج؟

-        أنا شفتها مرة وحدة بس، قالت لي انها قاعدة في بيت ..

يقاطعها الصوت:

-        أنا ما ابي اعرف اهي وين

-        عيل شتبين؟ قولي شلون اقدر اساعدج؟

-        أنا اخذت اوراق مريم بدون لا أحد يدري من غرفة أمي، بطاقتها المدنية، جنسيتها وجواز سفرها، اباعطيج اياهم توصلين لها كل شي، ادري انها راح تحتاجهم.

-        آنا حاضرة .. بس آنا ما اعرف رقم تلفونها

-        آنا بسوي إللي علي واعطيج الأوراق في عرس هديل. أمي راح تكون معاي بس راح اسلمهم لج أمانة لمّا نكون بروحنا .. بدون ما تشوفنا. الله يسلمج سلمانة، دوريها وعطيها اغراضها، ترى اختي ما عندها شي يثبت انها موجودة.

-        ان شاء الله منار، راح اسوّي إللي اقدر عليه

-        مشكورة

اغلقت منار سماعة الهاتف بعد ان لهجت بالشكر الجزيل، اغلقت السماعة وفتحت على سلمانة باب جديد من التحديات. كيف ستجد مريم؟ ومتى ستراها لتعطيها حقها في الوجود.

في حفلة العرس التي لم تحضرها نجلة درءا لشبهة عينيها التي لا تكتمان اللوعة، سلمت منار لسلمانة ظرف صغير متخم بما في داخله، وعندما ودعت هديل صديقتها العزباء الى عش الزوجية، كشفت هديل عن ركبتيها ووضعت يد سلمانة عليها، طلبت من سلمانة ان تقرصها بقوّة علّها تلحق بقطارها العامر. ابتسمت وغادرت المكان.

في طريق العودة بعدما أخذها والدها في سيارته في ساعة شبه متأخرة من الليل، مسكت سلمانة هاتفها تبحث عن الرقم الذي طلبتها من خلاله مريم في ذلك اليوم، فلم تجده. لم تنم طوال اليوم الى ان توصلت لفكرة!


***

على مائدة الطعام الصغيرة في كافتيريا المدرسة جلس جوناثان لوحدة، عادة يجلس يقرأ كتاب ما، يتلقف تحيات الأصدقاء والزملاء بين فترة واخرى ويعيد رأسه للكتاب. على طاولة بعيدة جلست سلمانة ولولوة ومشيرة السكرتيرة المصرية العجوز. كثيرا ما يجلس الثلاثة يتسامرن وقت استراحة الغداء. تجد مشيرة في سلمانة ولولوة لمحة من شبابها الغائب عندما كانت نحيلة وجميلة مثلما دوما تقول. وتجد الفتاتان فيها من خبرة الحياة وخفة الدم ودماثة الطباع ما يجعل جبال اعمالهن تخف وتختفي.

تعمل لولوة في دائرة شئون الموظفين التي تعني بكل ما يتعلق بالعاملين في المدرسة من المديرة الى اصغر فرّاش. فتعرف من خلال طبيعة عملها كل ما خفي عن هيئة التدريس والعاملين في الإدارة والذي دائما ما يكون الحديث عن خصوصايتهم موضوعا سريا شيقا بين الثلاثة.

اما مشيرة فهي سكرتيرة مديرة المدرسة، امرأة بأول الستينيات، قضت اغلب سنين عمرها مع زوجها الذي كان يعمل في الاباما في الولايات المتحدة، فأخذت منهم كل ما هو جيد من شئون العمل، ونست ان تأخذ ولو القليل من أمور الأناقة والهندام العملي والألوان والموديلات المناسبة لجو العمل.

ترتدي مشيرة تنورة قصيرة وضيقة رغم عظم عجزها وترهل فخذاها، كما انها لا تتوانى عن ارتداء قميص شيفون ملون بكافة الوان قوس قزح، ولإن القميص شفاف، فإنها ترتدي تحته بلوزة سوداء لا تمت للموضوع بأي صلة. شعرها مموج على طريقة الإطارات الدائرية، وغالبا ما تزينه بشريط تلفه حول رأسها على طريقة بنت البلد الشرقية. نهداها كبيران الى ما لانهاية، والألوان التي تضعها على وجهها تتطلب من معاهد التجميل دراسة جادّة للظاهرة. ولكن ما ان تفتح مشيرة فمها، حتى يجد المتلقي عذوبة في الكلام وسلاسة في النطق واختيار موفق للألفاظ. كما ان للسان مشيرة لكنة امريكية فوق الممتازة تعلمتها بالطريقة الصعبة عندما عاشت في امريكا لوحدها، حيث كان زوجها يعمل من الساعة السابعة صباحا وحتى السابعة ليلا تاركا وراءه على جبال الاباما دبدوبة غير ناطقة بلغة أهل البلد كما  كانت تسمي نفسها.

تعلمت مشيرة التي تحبذ ان يناديها الأجانب بـ"شيريل" لغة الأجانب من عمق المعمعة التي وجدت نفسها في وسطها عندما قررت العمل في أحد متاجر السوبرماركت لتقضي وقت فراغها بشيء مفيد. فانتقلت في غضون شهور قليلة من لغة الإشارات الصامتة مع الزبائن، الى يس – نو، ثم الى بلبل وكروان يغرد على المسامع ويمتع السامعين.

عندما كبرت ابنتها الوحيدة نيرمين، تزوجت من شاب مصري قرر ترك امريكا والسفر للعمل في الكويت. فأخذت مشيرة مجموعتها الموسمية من ملابس ورباطات شعر ولحقت بإبنتها تاركة ورائها هذه المرة دب عجوز في الاباما.

تقول أنها ملّـت العيش في بلاد لا تسمع فيها صوت الأذان، والمفارقة، أن شهيرة مسلمة غير ممارسة، أي انها لا تصلي!

لولوة وشهيرة لا تفترقان، ومؤخرا اضيفت سلمانة الى المجموعة فأصبحوا الثري سكوليتيرز كما اطلقت عليهم مسز كاندنس اللقب نسبة الى المسلسل الأمريكي الذي تحول فيلم شهير "الثري موسكتيرز" او الفرسان الثلاثة الذين كانوا يتصفون بالطرافة والغباء.

 لولوة فتاة كويتية من عائلة مرموقة، والدها كان ولازال دبلوماسي في احدى سفارات الكويت في الخارج لهذا عاشت لولوة اغلب سنين عمرها في عدد من الدول العربية والأوروبية والأفريقية، وعندما قررت ان تكمل دراستها الجامعية خارج الكويت، اختارت هولندا، البلد الأجمل والأكثر تحررا وانفاتحا في القارة الاوروبية. درست لولوة علم الإدارة وتخصصت في الموارد البشرية وشئون الموظفين. الى الآن لا تدري لماذا اختارت هذا التخصص!

تتمتع لولوة بقامة طويلة ونحلية جدا كعارضات الأزياء، شعرها داكن مموج قصير يصل الى نهاية رقبتها، خصرها نحيل جدا ونهداها مكتنزان ثقيلان. كثيرا ما تذّكر لولوة الرجال بفتاة احلامهم، جميلة وجذابة يستحضرونها دائما في جلسات اللذة مع انفسهم، ولكنهم عادة ما يخافون من الإقتراب منها متصورين أنها أجمل بكثير من مستوى طموحاتهم. تعرف لولوة تأثيرها على الرجال، لهذا هي دائما في المقدمة، بكشلها وذكائها وحيويتها تستطيع ان تملك كل ما تريد، وتستطيع ان تصل الى أي قلب.

في استراحة الغداء، تجتمع الثلاثة كل يوم على نفس المائدة في الجهة اليمنى من الغرفة المخصصة لأكل موظفي الإدارة وهيئة التدريس. في الكثير من الأحيان تختلط الجهتين في حوارات مطولة وشيقة تنصب اكثرها على انطباعات وتعليقات وانتقادات المدرسين الأجانب الذين يزورون الكويت لأول مرّة. وكثيرا ما تتولى سلمانة ولولوة الرد على اغرب الأسئلة واكثرها تعقيدا.

في يوم سأل مدرس اللغة الإنجيزية الأمريكي الستيني مستر دانيال عن السر وراء كثرة الوافدين الآسيوين في البلاد. واستفسر عن وجود هؤلاء العمّال الصغار بلباسهم الأصفر في كل مكان يسألون الناس اعطاءهم ولو القليل من النقود! سأل اين هي الجهة التي وظفتهم؟ وكم تعطيهم من مال؟ وما هي حقوقهم وواجباتهم المنوطة بهم ما ان تتم الموافقة على استقدامهم؟ واين هي الجهة المعنية بالمطالبة في حقوقهم المسلوبة؟

 وفي مرّة أخرى اعربت مدرسة الجغرافيا مس فيفيان عن حيرتها عندما قرأت في أحد محلات بيع الكتب والمطبوعات لافتة صغيرة مكتوبة باللغة الأنجليزية تحذر الغير مسلمين من لمس القرآن! استفسرت .. ماذا اذا كان غير المسلم يرغب بقراءة القرآن طلبا في العلم والمعرفة وربما اعتناق الدين الجديد! واضافت .. قد تعطي تلك اللافتة انطباعا بالتعالي والإحتقار لكل من هو غير مسلم!

تنطلق عادة حوارات ومناقشات كبيرة في تلك الغرفة، عادة ما تستمتع فيها سلمانة لإنها في النهاية تشارك أناسا حوارا بمنتهى الرقي، عرفوا متى يسكتون .. ومتى يتحدثون. وقد تعلمت هي بنفسها ان ترفع يدها عندما ترغب في زيادة نقطة او طرح المزيد من التوضيحات.

في ذلك اليوم بالذات الذي لم يطرح فيه اي سؤال .. تقدّم نحوها جوناثان بهدوء وسألها ان كانت تحب القراءة! أجابت بالإيجاب:

-        نعم .. أنا أقرأ كثيرا

-        بالعربية فقط؟

-        لا .. أقرأ بالإنجليزية ايضا

-        هل قرأت Tuesdays with Morrie ؟

-        لا

قطّب جبينه ونظر اليها:

-        يجب ان تقرأيه .. هو اجمل ما قرأت الى الآن

-        هل ستعيرني الكتاب؟

-        نعم .. عندما يصل!

-        يصل؟ اين ذهب؟

ابتسم ..

-        تركته في الوطن .. ولكني قلت لوالدتي ان ترسله لي

-        لماذا ؟ هل افتقدته؟

ابتسامة اكبر:

-        لا .. لكي تقرأيه

-        شكرا

-        اشكريني عندما تقرأين الكتاب .. فهو فعلا يستحق القراءة

اخبرها جوناثان عن "ميتش آلبوم" مؤلف الكتاب واستاذه موري، يعتبر كتاب ميتش هذا من اشهر كتب السيرة الذاتية في امريكا واكثرها مبيعا. صدر الكتاب عام  1997 ولازال الناس يتهافتون على قراءته. يحكي الكتاب بأسلوب رائع عن طالب تخرج من الجامعة تاركا وراءه استاذه المفضل. يعيش الطالب حياة سريعة مزدحمة بكل الأحلام التي يريد ان يحققها في العمل والمستقبل المهني. الى ان يعرف بالصدفة وعن طريق التلفاز ان استاذه الجليل قد يموت بأي لحظة جرّاء مرض خطير بات يفتك فيه ببطئ. فيقرر الطالب الذي اصبح صحفي رياضي أن ناجح ان يعود الى حياة استاذه ذو الشخصية الإستثنائية، يزوره في بيته كل ثلاثاء فيتعلم منه باقي الدروس التي لم يأخذها في فصول الجامعة.

يتبع ...

تعليقات

‏قال غير معرف…
متابعه لسلمانه وحبيتها هالسلمانه احسنتي سبمبوت

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

امرأة تحب النساء !

" غدّونة" تذهب للمدرسة !

أنا عندي أرنبه ..