( سلمــــــــــــــــانة ) 17





كتبت أحد الصحف خبرا مقتضبا عن قضية محمد حبيب مريم، قال الخبر أنه تم القبض على مواطن يتاجر بالمخدرات. كمّا أكّد الخبرعن وجود كميات كبيرة من حبات الهلوسة وبودرة الكوكايين في شقته الكائنة في بنيد القار. وقد تمت أحالة (  م.ق ) الى النيابة العامة وهو الآن بانتظار المحاكمة.

مريم التي احترقت عندما اصبحت جنتها مرتعا لإيواء المخدرات، كانت تعرف أن القضية ملفقة، والمضبوطات ما هي إلا حيلة استخدمها اخيها الضابط في الداخلية للتخلص منه الى الأبد دون ان تتوسخ الأيادي بدمه. بالنسبة لعقلية أخوانها العسكرية المتطرفة، كانت هذه الوسيلة الوحيدة لتلقينه درسا لن ينساه. لم يكن هدفهم الأول ايلامه او قتله، كانوا يريدون اختصار حياته، عمرة وشبابه ليعيش ويتعفن في زنزانة معتمة في سجن طلحة.

علمت مريم من مصادرها الخاصة أن جلسته الأولى أمام القضاء ستكون في الأسبوع الأول من الشهر القادم، يصادف يوم الأربعاء في الساعة الثامنة والنصف صباحا. أخذت سيارة صديقتها وحامت حول المبنى يومين قبل موعد المحاكمة. لم تكن تعلم ماذا ستفعل، ولكنها حتما ارادت ان تعرف المكان الذي سيقرر مصيره.

تساءلت إن كان قد أخبر المحققين ومحاميه الحقيقة؟ هل قال لهم أنه كان على علاقة بها، وأن اخوانها قد ضبطوهم متلبسين بحالة عشق في مرتع غرامهما، فكسراها ولفقا له تهمة شنيعة بهدف الإنتقام؟ تمنت لو يفتح فمه ويقول الحقيقة .. تمنت لو يدافع عن نفسه، وعن حبهما ويخبر العالم أن ما هو الآن فيه نتيجة علاقة عاطفية ضربت أعماق الأعراف. بغض النظر من صحة الفعل او خطأه، كان الحدث بين عاشقين، وأصبح الآن يحوم كالغراب الأسود في قاعة المحكمة، في مذكرات المحامين، وبين مطرقة القاضي وسندانه!

تمنت لو يقول، فهي لم تعد تخشى الفضيحة، اخوتها واسرتها يخافونها، ولا يريدون لإسمها أن يحوم هو الآخر في الألسن والحناجر.

ولكن فات الأوان .. وانتهت القضية بالنسبة لها.

في يوم الأربعاء الموعود استيقضت في السادسة، تحممت ولبست فستانا اسود. بدت نحيلة ومتعبة ولكنها ايضا بانت بمنتهى الرقة والجمال. اتصلت على سلمانة في السابعة وسألتها ان كانت ستذهب معها لقضاء مشوار ضروري. اعتذرت الأخيرة معلله أنها وعدت والدتها ان تأخذها الى الصالون. أحسّـت سلمانة بتفاهة حجتها رغما عن صدقها. اغلقت الهاتف واستوعبت معضلة مريم، ولكنها اطمأنت عندما اقفلت مريم السماعة وهي تؤكد انها تتفهم ظروفها. بدت مريم هادئة على الهاتف، رائقة وكأن حمامة بيضاء قد رفّت بحنان داخل قلبها.

في الساعة الثامنة اوقفت مريم سيارتها في صف السيارات التي تقف تنتظر المصير، جلست هناك الى ان رأت أبواب المحكمة تفتح والناس يدخلون. لأول مرة في حياتها تجد نفسها في مكان مثل هذا، كانت علاقتها بالمرافق الحكومية طفيفة، فمنذ صغرها ورجال العائلة هم من يقومون بكافة الإجراءات الحكومية المتعلقة بنساءهم كأن النساء عيبا اعترفت به الحكومة رغما عن انوفهم.

فتحت درفة المرآة أمامها وحدقت بوججها الذي بدى مختلفا عن كل يوم، تساءلت بصوت خافت لا يسمعه إلا هي: ماذا افعل؟

اغلقت المرآة وحدقت بالشارع لتراهم .. يتقدمون كجنود الحصون  المنيعة الى بوابة المحكمة. ارتعدت اوصالها وشعرت بحريق ما داخل صدرها. اخوتها الثلاثة بدشاديشهم البيضاء وقلوبهم السوداء، كالطواويس العجولة منتشين بانتصاراتهم المشرووعة دفاعا عن الإسم والشرف.

ما حكاية الأسماء عند العرب؟ الأسماء عناوين دالّة على كيانات من المفروض ان تكون موغلة في العمق. ولكن في احيان كثيرة، يكبر العنوان فيغدوا اعظم من القصة التي تأتي بعده. ولا ينفك قارئ العنوان .. الباحث عن حقيقة تاريخه من تلقي صفعات الخيبة عندما يفتح عمق الناس ليجدهم بمنتهى الخواء، خلافا عن فحوى اسماءهم.

تلاشت في كرسيها خوفا من ان يروها، ابرق الخوف في رأسها فانخفضت تحت نفسها، كادت أنفاسها تقطعها بحدتها وصدرها المنتفض يفضحها من هول العويل.

أحست بألم عندما انقطع الهواء عن رأتيها، نظرت لحالها فوجدت نفسها لازالت في الأسفل، لم تتوقف يوما من الشعور انها في الحضيض كلمّا واجهت اخوتها الذكور. فطلباتها يوما لم تكن مهمة، احلامها لم تكن ذات معنى، وأمانيها – حسب رأيهم – يجب ان تكون محصورة بالبيت وانتظار القدر الذي سيجلب لها النصيب ويجلب لهم الخلاص.

انتفضت وعلّت رأسها، كانت تريد ان تتأكد أن الفوارس لم تعد بالسماء، استنشقت هواءا عليلا ذكرها بالحرية. فجأة رأت شمسا في الأفق غير التي كانت تعرفها. سقف السماء بانت واسعة وكبيرة وشهية تتسع للجميع. رفعت نفسها وجلست مستقيمة لإنها لم تكن يوما عوجاء او مائلة. هي فتاة جميلة وذكية وقادرة على اتخاذ القرارات وارتكاب الأخطاء وتحمل المسؤوليات مهما كانت. هي امرأة قادرة على وضع النقط على الحروف الصامتة، وقادرة على اسكات كل الأفواه التي تشوي جلدها وتعلك لحمها.

الساعة الثامنة وخمس وثلاثون دقيقة، ترجلت من سيارتها وصفعت الباب خلفها. دخلت البوابة الكبيرة وسألت عن موقع قاعة المحاكمة، ارشدوها ولم تسمع اي شيء آخر غير رقم القاعة.



***

فكرة فتح درفة الباب الأولى ليدخل قليلا من نور قلبها الى عيني والدتها كانت بمنتهى السريالية، ذلك الشق الصغير جدا الذي من المفروض أن تدخل منه نسمة من روحها وخطة مستقبلية خطيرة. ان تسمح لامها ان تطل بعينيها الثاقبتين من الشق على ما يدور في الأيام الراهنة داخل حديقة رأسها تكاد تسقطها من طولها. لماذا نخاف مما نريد؟ وإن كان فعلا الوضع الذي أوجدت نفسها فيه ضربا من خيال، لماذا سمحت له ان يكبر ويتطور ويتقدم خطوات كبيرة في ارض واقعها؟ أن تحب رجل فعل تلام عليه الفتيات وإن كان امتعاضا هادئا وتقطيب جبين، ولكن أن تحب رجلا أجنبي  – خصوصا في عائلتها – بمنتهى الجنون.

على ضفاف الأريكة المستطيلة، جسدها يتطرف ويتدلى تكاد تقع على الأرض تماما مثل ما تبقى من شجاعتها. أمها تقشر الفستق الحلبي وترتشف رحيق الشاي كعادة أمسياتها، على أصوات متناثرة من مسلسل سوري، لكنتهم الممطوطة الى خارج حدود الكلام، ومصطلحاتهم الرائقة، تفكر أي الكلمات أنسب للبداية:

-        يمّا .. جم عمرك لما تزوجتي؟

-         اثنين و عشرين

-        حبّيتي قبل لا تتزوجين؟

تنتشل عينيها من على شاشة التلفاز .. وترمقها:

-        ما حبيت .. بس كان ودّي

ابتسمت ..

-        وما لقيتي أحد تحبينه؟

-        لا .. بس كنت أفكر إني اذا حبيت راح أجيب عوار القلب لنفسي، وعوار الراس لأهلي!

-        ليش؟

-        ما كنت اتصور أني مؤهلة للإختيار، كانوا كل البنات من حولي يتزوجون عن طريق الأهل أو الخطابات.

-        يعني كنت تعتقدين إنك إذا حبيتي شخص واخترتيه للزواج أهلك ما راح يوافقون عليه؟

-        طبعا ما راح يوافقون .. شلون يوافقون وآنا إللي اخترته، كنت بنت صغيرة وحبي لشخص راح ينبني على أساس ضعيف: شكل، سيارة وطول وعرض! الأهل ما تهمهم هالأشياء كثر ما يهم مخبر الريّال مو منظره.

-        قوليلي الصج .. كان فيه واحد .. صح؟

تضحك نجلاء برقة ندر ما عرفتها سلمانة:

-        منو فينا ما حب ابن الجيران؟!

في تلك اللحظة بالذات، وجدت سلمانة في والدتها خيطا يربطها بها، أمها ايضا كانت فتاة في مثل سنها يوما من الأيام، تحيط حول معصمها سوارا من أحلام الحب والغزل والجمال. قصص سندريلا وسنو وايت وريبانزل ذات الشعر المتدلي من اعلى البرج الى اسفله، تلك التي يتسلق أميرها خصلات شعرها ليصل لها .. عشعشت في قلب أمها التي تزوجت وأنجبت ودارت بها الحياة لتتبدل القصص الاسطورية  بقصص أخرى تحيكها لها ام مشاري، وام ناصر وام راكان!

تضع نجلة استكانها في الصينية، تلتفت لسلمانة .. وتسألها بعينين لامعتين:

-        وانتي .. ما حبيتي؟

لو ضعفت سلمانة أمام عيني والدتها اللاتي ذابتا في وجهها لقالت لها "نعم" لأكدت لها أن الحب لا يعرف المستحيل، والتوافق الروحي لا يطرق الأبواب وينتظر تواقيع الوفاق من المجتمع ولا العادات ولا التقاليد. لو ضعفت سلمانة في تلك اللحظة، لو تحرك لسانها يلفظ ما يقوله لها قلبها لانفجرت كل المعارك والحروب التي كانت ستخوضها مع بداية شهر أكتوبر .. الآن!


يتبع ....

تعليقات

‏قال غير معرف…
Omg
Soooo good
Can't wait to know more
Mwafgaa 7abebty :)
‏قال ARTFUL
جميييييل (:

مع ان المقطع قصير

يعطيج العافيه ، متابع (:

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

امرأة تحب النساء !

أنا عندي أرنبه ..

" غدّونة" تذهب للمدرسة !