( سلمــــــــــــــــانة ) 18



للرخام على الأرضيات اللامعة في الكويت نبض لا يحسه ولا يشعر به إلا هؤلاء الذي وضعوا رؤوسهم يوما عليه، مسحوا فيه دموعهم وأخذوا منه ما يحتاجونه من دفئ. الرخام بارد وجاف لكن كل صفات الحجر الذي فيه مبررة كونه حجرا صنع ليكون صلدا لا ينحني ولا يتكسر تحت كل تلك الأقدام التي تدوس والأجساد التي تلقي بكل ثقلها بلا مبالاة. حتى في غيابها، غربتها خارج إطار الوطن كانت بعض الروائح والمناظر تعيدها بلا شعور ولا إرادة الى الكويت، تغمض عينيها تحاول طرد الأشباح الجميلة ولكنهم لا يغادرون. رائحة الهيل التي نادرا ما يستخدمها الغرباء في مأكولاتهم، كلما مرّت على ذلك المطعم الهندي القابع في أحد شوارع الغربة ملئت أنفها ومن ثم رأسها رائحة الشاي بالنعناع والحليب بالهيل! مرّت هناك ذاهبة للعمل لأيام، وكلما اقتربت من المكان في الصباح الباكر فتحت أنفها لتستنشق العبير، اكتشفت بعد أيام أنها كلما اشتمت حليب الهال في الصباح أصبحت مكتئبة  بقية يومها وكأن شيئا أشبه بالغيمة السوداء فوق رأسها، يكسوها حزن جائر وتختفي ابتسامتها الودودة في وجوه الزملاء.

للرخام ذات التأثير، في مقر عملها الحالي الشركة المتخصصة في بيع أحجار البناء وبورسلان الحمامات امتدت على الأرض ألواح الرخام بكل ألوانه، كلما رأته بعين الحنين، كلما لمست جسده البارد عادت بها ذاكرتها الى المكان الذي يوما نادته الوطن! أصبحت تتجاهل الرخام كما تجاهلت المطعم الهندي، وبحرفية متناهية اكتسبتها مع الوقت أصبحت لا ترى ولا تشم إلا ما تختاره هي، ببساطة لم تعد تسمح للأشياء والروائح ان تجتاحها وتدخلها وتؤثر بها بلا استئذان .. في فترة متقدمة من الغربة دربت نفسها على أن لا ترى ولا تسمع ولا تقول إلا ما تريد تماما مثل تمثال القردة الثلاثة الذي تضعه على طاولة مكتبها الفاخر.

قبل الرحيل كان لديها مهمة أخيرة حسبتها نادرة ومستحيلة، قررت أن تنفذها بعد ان تحصل على تأشيرة الهروب وتذكرة المغادرة. عند نوافذهم الصغيرة التي يقررون من خلالها إن كان المتقدم أهلا للحصول على أذن الدخول لبلادهم البعيدة قالت لهم أنها هاربة من المهانة، هي امرأة كويتية شابة وأدت آلاف المرات طوال سنوات عمرها، لم يكن وأدها يوما تحت التراب، لكنه كان تحت حدود الرحمة وفوق طاقة التحمل. سألوها الى اين ستذهب، قالت لهم الى كل الأماكن التي تسمح لإمراة مثلها بالتنفس، وعندما قالوا لها إن كانت تطلب اللجوء رسميا، هزت رأسها بالنفي وقالت لن ألجأ إلا لمكان اجد فيه نفسي أولا.



***



على اعتاب بوابة محاكة محمد وقفت مريم تعدد مساوئ ومناقب ما هي مقدمة على فعله، تعلم انه هناك خلف هذا الباب محشور في قفص الإتهام، قابع في بقعة سيريالية بين الواقع والخيال. تعلم أنه منذ حبسه وهو يسأل نفسه لمَ؟ ماذا فعل في حق هذا المجتمع ككل لكي يضيع شبابه في تهمة أبعد ما تكون عن الحقيقة! تعلم انه حزين، خائف على صحة والدته التي ليس لديها ولد سواه بين خمس فتيات في عمر الزهور، مات والدهم وترك لهم ثروة جيدة ورجل من المفترض ان يحميهم ويرعاهم أن يصلن الى بر الأمان! تعلم أنه هناك في زنزانته الصغيرة يفكر بتلك الأحلام الكبيرة التي رسمها معها، البيت الذي سيبنيانه والمستقبل الذي سيعيشانه. تعلم انه يرتعب كلما فكّر الآن في المستقبل، ربما يبكي كلما تذكر أنه أمام احتمالية أن لا يكون له مستقبل. مريم تعلم كل هذا عن محمد هي تعرفه جيدا، تعرفه لإنها تحبه .. ومعرفة الحب أعمق وأقوى. ولإنها تحفظه عن ظهر غيب، هي موقنة أنه وعلى الرغم من كل ما يمر به، لم يندم ولو لدقيقة واحدة على علاقته بها. هي تدرك ذلك تماما لأنها هي ايضا حتى بعد كل ما مرّت به لم تندم يوما على الأيام والمشاعر التي شاركته بها. عند بوابة قاعة محاكمة محمد، وهي تسمع الأصوات تتحدث كلاما تقطعه المسافات والأبواب الخشبية الثقيلة، قررت انها ستخرج محمد من حبسه ثم ستخرج هي من سجنها الى الأبد.

دفعت مريم الباب ودخلت، كان وجهها موجها للأمام، لم تنظر للجالسين على اليمين ولا على الشمال. لم تلتفت للقفص الذي يجلس فيه محمد شاحب وهزيل، لم تبحث بعينيها الغائرتين عن وجوه أخوتها ولم تتردد في وضع رجل أمام الرجل الأخرى لكي تنفذ فعل بسيط وبديهي جدا كالمشي!

 قالت لنفسها، اقنعت عقلها ان الخوف وحده قادر على ايقافها من إنقاذ انسان من الممكن ان يفقد أجمل سنين عمره لأجلها، قررت أنها مذنبة، فاجرة، زانية، عاهرة .. ولكنها لن تقبل ان تكون ظالمة. تعدّت نصف القاعة، لم تسمع شيئا، تعدّت النصف الآخر من القاعة، اقتربت من مسطبة محامي محمد ثم سمعت صرخة أخيها الكبير ..

-        بنت الكلب ...

دوّت كلمته في أرجاء المكان، تعدد صداها، ضرب السقف ورجع .. وقف محمد، التفت الحظور، استنفر الأخوة، دنى منها محامي المتهم مستفسرا، دنى منها وكيل النيابة رادعا الأخوة الثلاثة من الإعتداء على امرأة مجهولة.

وقفت مريم بالمنتصف، تماما كتمثال العدالة، نظرت للقاضي الذي طرق بمطرقته على السندان وأمر بالهدوء .. صرخ جاسر ..

-        طلعوها من هني .. هاذي نجسة

التقت عينها بمحمد، كان يقف في منتصف قفصه، يمسك القضبان، يبتسم قليلا ثم يبكي، يتوسل لها ان تخرج من هنا .. وقف كل من بالقاعة، شخصت الأبصار عليها وعلى الأخوة الثلاثة. وتدخلت مجموعة من رجال الشرطة عندما همّ حميد بمهاجمتها، فدفعها الى الأرض وأخذ يركلها. امسكوه الرجال وحض القاضي القاعة على الهدوء واحترام المحكمة. مد محامي المتهم يدا لمريم، نهضت ونفضت غبار المهانة، وقفت من جديد في المنتصف إعلانا لوجودها الذي لن تتراجع عنه، اتخذت الخطوة، فتحت الباب وبدأت المعركة.



يتبع ...

تعليقات

‏قال ARTFUL
الجزء جميل جدا ولكنه ينرفز ،، قليل الاحداث!!
‏قال غير معرف…
Am in love with salmanah :**
Go girl :)
‏قال غير معرف…
I'm waiting since u poSted salmana 18.. Where r uuuu??? Hope everything is going well

Amazing story waiting for part 19.. Can't imagine what would happen...

Xo
H

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

امرأة تحب النساء !

" غدّونة" تذهب للمدرسة !

أنا عندي أرنبه ..