نوستالجيا ..




 


أكوّم الوسادة الصغيرة التي تعطيني المضيفة، بغضب او ألم لا اعلم، ولكنني أنجح في تقليص حجمهما الى النصف، أحشرها بين رأسّي ويدي، أغمض عيني وأحاول أن انام! لا أعلم لماذا لا يطاوعني النوم وأنا بين جناحي طائرة، نادرا ما يعطيني النعاس مجالا لأنسى مرارة الطيران، طول الرحلة وفجيعة فكرة أنني معلقة بين السماء والأرض، محجوزة في مقصورة ما مع أناس لا اعرفهم ولا أحبهم! حتى رغبتي في الترجل، في الرحيل ليست من ضمن قائمة الرغبات المحققة!




أضغط على الزر الذي يناكفني منذ أول لحظة جلست فيها على الكرسي الوثير في درجة رجال الأعمال! يزيد حنقي تلقائيا من كل مسمّى لا يترك للمرأة مجالا للوجود! ماذا إن كنت سيدة أعمال مثلا .. أين هي درجتي؟ يذوب الكرسي بحرفية تامة، يستريح، ينخفض الى الأسفل وأذوب معه. أقفل شاشة التلفزيون التي أمامي، انزع السمّاعة من على أذني وأغمض عيني. اصلّي صلاة صغيرة أسأل الله ان يريح جفني اختصارا للمسافة الطويلة .. وأسأله ايضا أن لا أراها!






- سيدتي .. هل ترغبين أن أصحيك لفترة الغداء؟




ازيح اللحاف عن رأسي، افتح عيني وأجد المضيفة إياها التي اعطتني وسادة اضافية عندما طلبتها، افتح عيني أكثر، كانت المضيفة تحمل في يدها اليمنى شيئا، الشيء له رأس! لازال النعاس الذي دعوته ورجوته يرسم حلقات ضوء داخل عيني، افتح عيني باتساع، أنظر لما تحمله المضيفة، كانت هي .. الطفلة النصف صلعاء، المضرجة بجروح بنية منثورة على وجهها، ذاتها الطفلة التي تطاردني في كل حلم، تلك المنقوعة بدم جاف كان يوما يسيل على وجهها ..




أشهق واستفيق ..




أقفز من على كرسي الطائرة الوثير، أصرخ صرخة مكتومة أوقفتها حقيقة أنني كنت احلم، لازلت في مقعدي المائل في الطائرة المتجهة الى أستراليا لحضور مؤتمر! المضيفة لم توقظني من النوم! ولم تسألني إن كنت أريدها ان تصحيني في فترة الغداء. أنا هنا، آلاف الأميال فوق مستوى الأرض، معلقة في إحداثيات ما، في سماء ما، فوق شيء ما. وتلك الطفلة القبيحة لازالت هنا، تبعتني حتى الى هنا .. الى لا مكان .. لا موقع.




منذ المرحلة المتوسطة وأنا وتلك الطفلة المشوهة في عراك مستميت على الوجود! أتذكر أنها ظهرت أول مرّة في رأسي عندما كنت أحاول أن أهزم ليلة مؤرقة، أتقلب بفراشي البنفسجي، اقرأ قصة تركتها لي أمي على طاولة السرير، أقفل القصة وأغمض عيني. حسبت وقتها أنني نائمة، ولكن ما إن ظهر وجهها فجأة في رأسي، فتحت عيني وصرخت! تلك الطفلة المخيفة لا تتعدى السنة والنصف، بشرتها بيضاء سُحب منها الدم فأضحت أشبه بشبح مسكين، رأسها مكشوف، شعرها منتوف وهناك بقعة كبيرة من فروة رأسها حاسرة لا يغطيها شعرها الناعم! وكأن أحدهم قد تعمد تشويهها، سلب ملامح البراءة والسعادة من على وجهها! كانت ولازالت ملامح الطفلة حزينة على الرغم من أنها دوما صامتة. هناك جروح قديمة مندملة تغطي مساحة كبيرة من وجهها، وسيل دم جاف، كأنه خيط من الدم يبدأ من رأسها الذي لازال يحتفظ برقعة شعر الى رقبتها الصغيرة! لا اعرف من هي، ولمَ تزرني تلك الطفلة؟ تظهر في رأسي بفترات متفرقة، أحيانا متلاحقة، وأحيانا – خصوصا عندما أكون غاضبة او متوترة – تظهر في رأسي كلما رمشت عيناي او أغمضت جفني!




أحيانا تزورني في الأحلام، لم تحادثني قط! دوما صامتة، ترتسم على وجهها ملامحها الحزينة، تعبيرات لا أفهمها! أحيانا تومئ لي، تشير بإصبعها المرتعش لمكان بعيد لا ينتهي، تنظر داخل عيني بشغف، بحب وأحيانا بغضب، ولكنها لم تضرني يوما! لم تضربني، لم تحرقني، لم تصرخ بوجهي كما يفعل الأشرار بأفلام الرعب! لم أشعر يوما في الرغبة بالهرب منها، بالتخلص منها! أصبحت مع الوقت قريبة منّي، تلازمني كظلي، اعتدتها واعتدت وجودها المفاجئ في رأسي، في نومي، حتى في أحلام يقظتي. أغضب منها أحيانا عندما تظهر في وقت غير عادتها، أتجاهلها عندما تظهر في فترات راحتي، شوقي، شغفي، سعادتي! اغضب ليس لإنني لا أريدها، بل لإنني أرغب بالتفرد بنفسي ولو بضع حين!




- سيدتي .. استيقظي .. لقد وصلنا وجهتنا، يجب ان ترفعي الكرسي وتربطي الحزام ..




افتح عيني، يضربني ضوء الشمس الذي تسرب من انفراجة صغيرة أسفل النافذة جارتي، أمد يدي وأفتحها كلها واستنشق اشراقة شمس صباح جديد. متى نمت؟ وكيف أغمضت جفني بعد أن حلمت بالمضيفة التي تحمل الطفلة إياها؟ وكيف نمت كل هذه المدّة بلا أن تعاود الطفلة الظهور مرة أخرى في حلمي. هبطت الطائرة في مطار "سيدني"، ضممت الغطاء أقرب الى صدري، شكرت الله على السلامة، وشكرت الطفلة على استفاضتها في الرحيل مما ساهم في نومي أطول وأعمق الى أن وصلت لوجهتي.




ثلاثة أيام بين صالة المؤتمر والغرفة، تمر الساعات بشرعة 100 حصان تترك خلفها خيطا ضئيلا من دخان احتراق طاقة إنسان! لا أكاد أصل الى غرفتي حتى أضع رأسي على الوسادة واغفو، تلك الغفوة توصلني بسحائبها الرائقة الى بوابة اليوم التالي. لا وجود للطفلة .. لإنني لم احظ الى الآن بدقيقة واحدة لنفسي.




في اليوم الأخير، في الصف ما قبل الأخير لمحاضرة تطرق موضوعا استثماريا مملا يجلس بجانبي رجل أبيض نحيل ذو لحية كثة بيضاء، يرتدي بنطلون جينز فضفاض وقميصا بطلعات حمراء متشابكة. ينظر لي من طرف عينيه كلما سنحت له فرصة ! اتجاهل العجوز وانظر في ساعتي، الاحظ أنه ينظر فيها معي.




المحاضرة الأخيرة .. اليوم الأخير .. الساعات الأخيرة قبل أن أترك الفندق وأتوجه للطائرة، اجلس على كرسي عالي في مطعم الفندق، ارتشف فنجاي شاي اخضر وأراجع ملاحظات التقرير الذي يجب ان اعدّه للإدارة عن المؤتمر ما إن أعاود العمل. يد متعرجة تستقر على يدي، دافئة وناعمة بالرغم من خطوط العمر. لم أقفز من مكاني ولم أشعر بذلك الخوف التقليدي عندما يتعدّى أحدهم على حيزنا. التفت بجانبي لأرى ذاته هو الرجل، بلحيته الكثة وعينيه العميقتين. هذه المرة يمسك يداي :




- أخبريني قصتك !




ترتسم على وجهي علامة استفهام كبيرة، تتدلى شفتي السفلة وأشعر أنني بحوض دافئ، يتنمل رأسي وهو يخبرني أنه خبير جنائي وبروفسور في علم الأدلة العضوية وتطوّر الصيغة الجسدية لضحايا العنف والتعذيب! أتوه بألف متاهة وهو يرسم بإصبعه على وجهي ورأسي وشعري خريطة لبقايا جراح قديمة جدا .. لم اعد اتذكرها!




تعليقات

‏قال 7osen
ابداع مميز جدا
‏قال ARTFUL
يااااا سلاااااااااااااااااام


واخيرا

الحمدلله على سلامة سبمبوووت (:

متشوق ، لا تطولين علينا (:
‏قال غير معرف…
we really missed you , welcome back dear .. please please write soon :*

Z
‏قال Danderma
أشتقت لكتاباتك!
‏قال Nikon 8
بداية مشوقة ... بالإنتظار لبقية القصة
‏قال غير معرف…
Pleaaaaaaaaaaaaaaaaaaase write !! 6awaltay 3alainaaaa :(((((((
‏قال ARTFUL
أشوه مو بس أنا حتى نيكون حسبالها في تكملة للقصة

p;
‏قال غير معرف…
سبمبوت :(((((( طولتي علينا
‏قال غير معرف…
حبيتج من دون ما اعرفج اسلوبج وكتاباتج تحببن الكل فيج ربي يسعدج
‏قال الجودي
اشتقت لفترة كان الاختيار متاح بين المدونات النشطة والفعال .. فجئت أبحث عن مدونتك ..

حدث له وقع مختلف اختلط علي إن كان حقيقه أم رواية .. كنت مشدوده طوال الرحلة .. وتنفست شروق الشمس .. وأنهكت بفعاليات المؤتمر .. وانتظرت الحقيقه من خلف تلك اليد ...

ختاما

الحمدلله على السلامه ..
وأتمنى اقرأة التكمله إن وجدت ..

تحياتي

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

امرأة تحب النساء !

" غدّونة" تذهب للمدرسة !

أنا عندي أرنبه ..